سعدت يوم أمس بزيارة أخي الأكبر دولة فايز الطراونة، واطمأننت على صحته بعد رحلة استشفائية شاقة قضاها في ألمانيا، وهي في الحقيقة رحلة صراع من أجل الحياة ينتصر فيه القوي، وقد حقق دولة الأخ العزيز «أبو زيد» النصر بفضل إيمانه ورباطة جأشه. لم أستطع منع الذاكرة من خلع ثياب النوم، وعودتها دون استئذان لجلب الماضي بما حمله من مواقف وقصص وحكايات دارت قبل عامين من رحيل معالي الأستاذ أحمد الطراونة، السياسي العتيد، والعنيد أيضاً، وهو عناد في الحق، وعناد في حب الأرض وسلامة أهلها.
وعندما سمع صديقي الأستاذ سيف الشريف في بدايات عام 1997 أنني أتردد على بيت الراحل القدير لإعداد مذكراته، وكان الأستاذ سيف أيامها نقيباً للصحفيين ومديراً عاماً للدستور. قال لي: كيف تستطيع التفاهم مع أحمد الطراونة؟ قلت: ماذا تقصد؟ قال: يخيل إلي أنه شخص جاد، وربما حاد أحياناً، كيف استطعت مع فارق السن تحقيق التفاهم بينكما؟ قلت: المسألة سهلة، لأنني تفاهمت مع من هو «أصعب» من العم «أبو هشام». قال: من؟ قلت: أبوك، فانفلت سيف الشريف حفظه الله بالضحك، وأطلق ضحكة مجلجلة سمعها كل من حول مكتبه في مقر الصحيفة، والحقيقة أن مثل هذه الشخصيات جادة الملامح، ومنها ملامح وجه معالي الأستاذ الراحل محمود الشريف رحمه الله، يختبيء خلفها طفلاً مهذباً رقيق القلب، صافي السريرة. وجوه شخوص تخفي خلفها قارورة من عسل، غدير ماء رقراق. قناة الدمع لديها طيعة مطواعة، هؤلاء ومثلهم أصحاب دمعة سهلة؛ يبكيهم أي موقف إنساني مؤثر. إنهم كائنات بشرية رقيقة. أبي كان من هذا النوع أيضاً، طالما هرب أطفال الحي من أمامه عندما يطل عليهم من بعيد، لكنهم لم يعرفوا أبي. لم يعرفوا إلا وجه أبي، ولا علاقة لوجهه بقلبه لا من قريب ولا من بعيد.
لا تنظروا إلى وجوه البشر. أنظروا إلى قلوبهم، وإلى أفعالهم. هذا ما علمتني إياه الحياة. قال لي «أبو زيد» بالأمس: لقد أحسنت وصف عمك «أبو هشام»؛ هو كذلك. لكن حقيقة أخرى يجب ذكرها عند الحديث عن العلاقات الإنسانية، تتعلق بالروح. الأرواح جنود مجندة، من تعارف منها ائتلف، ومن تنافر منها اختلف. لا داعي للاجتهاد فيما ورد فيه نص. قال: فلان يحبني. قالوا: كيف عرفت ولم تجالسه إلا اليوم؟ قال: لأنني أحببته. ألم يقل طاغور: في الحب لا يسل أحد لماذا. إنه سلطان الحب الذي يؤلف، ويجمع، ويقرب البعيد، وهو الحب الذي يجعل الوطن أكبر من مساحة أرضه، ويجعل «بيت الضيق» يسع «ألف صديق». اللهم اعمر قلوبنا بنعمة المحبة.
والله من وراء القصد
(الدستور)