من باريس، عاصمة الثقافة أكتب، وقد صرت أرى فيها عاصمة لظلال الموت القاتم أيضا.
قبل يومين، توفي هنا في أحد مشافي باريس رئيس وزراء تونس الأسبق محمد مزالي، وكنت قبل أسبوع أتصفح سطورا مما كتبه المرحوم مزالي عن آخر أيامه نقلا عن كتاب» نصيبي من الحقيقة» والمنشور عام 2007، وما قرأته يشبه إلى حد كبير مرافعة يدفع فيها مزالي ببراءته مما نسب إليه من كثير إبان عهد الرئيس التونسي الراحل والمثير للجدل الحبيب بورقيبة.
أكثر ما فاجأني في «مرافعة» مزالي طريقة عزله من رئاسة الحكومة التونسية، والتي سمع بها من التلفاز في بيته بعد يوم «عمل» كما يقول!! وصدر قرار العزل وتعيين الوزير الأول الجديد بدون أن يملك مزالي حق المعرفة المسبق! ثم يسرد مزالي قصة لقائه بالرئيس بورقيبة في اليوم التالي من صيف عام 1986 حيث استقبله بورقيبة، وعاتبه على قصة تتعلق بالتربية والتعليم وقضية تعليم اللغة الفرنسية وتعريبها!! مما كان أحد أهم أسباب العزل حسب رواية المرحوم مزالي!
شردت بخواطري كثيرا وأنا في عاصمة النور وظلال الموت المنفي على قارعة الغموض، لأتذكر أيضا الموت المعلن لوفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في باريس أيضا!! موت معلن في مشفى باريسي أيضا، وإعلانه لم يكف حتى اليوم لتغطية ما هو غير معلن عنه، والأيام قد تكشف عن كثير أو لا تكشف..الله وحده أعلم.
وعلى ضفاف موت المنافي...ولأن باريس هي باريس، فإنها احتفلت كمدينة للثقافة العالمية كما تحب أن تكون، بافتتاح ساحة تحمل اسم محمود درويش، الشاعر الفلسطيني العربي الكبير، وقد غيبه موت مباغت بطقوس أكثر قتامة خلف الأطلسي في تكساس، وقد خذله قلبه في لحظة انفجار «أورطية» أفجعت محبيه. وكانت باريس حديقته التي يتفيأ ظلال حدائقها ليتنفس كلما ضاق اختناقه، وكانت مقاهيها المنتشرة في الشوارع بيوته الكثيرة وتنويعات فناجين قهوته التي سكبها شعرا زلالا ما زلنا نقرأه، فقررت المدينة أن تحيي ذكراه وقد رحل!
ثلاث خواطر لموت على صيغة منفى، شكلتها مدينة النور والثقافة والموضة، تداعت أمامي وأنا أرقب المدينة من طرف مقابل لقوس النصر، وأتساءل أي نصر تبقى لهذا القوس وقد مرت من تحته بصلافة جيوش النازية وهتلر نفسه يوم سقوطها بلا تعب أمامه!
باريس، مدينة الثقافة التي كان عمدتها جاك شيراك، آخر الديغوليين الذي صار رئيسا للجمهورية، وغادر الأليزيه بدون ضجيج وباحترام يليق بحجمه انصياعا لديمقراطية انتخبت ذي الأصول المجرية ساركوزي!
وهي باريس ذاتها التي كرمت فيروز في أكبر صالاتها بوسام الكونكورد الرفيع، ليقف جاك لانغ وزير ثقافة الجمهورية امامها «آنذاك» وهو يقلدها الوسام ويقول لها أنه يستمع لها منذ شبابه!!
من باريس، ولأنها باريس، تتداعى الصور مما قرأنا وسمعنا وشاهدنا...ولأن لكل مقام مقالا..وللمقال حدوده وباريس مدينة لا ينتهي الحديث عنها، نضع الأقلام، ولا تجف صحف المدينة المتخمة بتناقضاتها.
Malik_athamneh@hotmail.com
الراي.