في زيارتي لأختي وبعد أحاديث تواصلت بيننا ما بين ليل ونهار، وكنت أهمُّ بترتيب أغراضي حينما رأيت صندوقًا لنُسخ إصدار كتاب أختي د. ريمان عاشور (عن وجع لا يُرى).
أخرجت أحد النسخ من الصندوق وجلست على طرف السرير فقط، لأطالع الغلاف ثمَّ أقرأه لاحقًا، وكانت ريمان في المطبخ تعدُّ القهوة لنا لنحتسيها سويًا ونكمل حديثنا، لكنني تورطت بعد الاطلاع على غلاف الكتاب في ولوج عميق غرقت به متجمدة، مذهولة من حجم هذا الدفء والسرد الجميل والعذوبة في توصيف المدن والمشاعر الإنسانية التي تتدفق إليك في مكانك. لم استيقظ إلا عند صفحة ٢٢٧ وصوت ريمان تناديني:" هيا وينك وين صرت".
فنزلت من الطابق العلوي في منزلها إلى الطابق السفلي حيث تقف لا تدري أنني كنت متورطة بكتابها، فصرخت دون أن اشعر وأنا مأخوذة تماما بما قرأت: " ريمو شو هدا الجمال والروعة!.
ما كل هذا الدفء والحلاوة والعذوبة القصصية!.
ما كل هذا الشجن والفرح وثنائيات الوجع والصبر والموت والولادة.
أنا وين كنت!!!
ماشاء الله أختي بلا مجاملة وانطباع أولي دون أي مواربة.
إنني أخذت تماما بكتابك، لم أستطع أن أتحرك من مكاني، ظهري تيبس تماما".
قد يكون من الصعب جدًا أن تكتب رأيك بحيادية عن أحد الكتب لا سيما إن كنت تشعر بأنك جزء من النص، أو متعلِّق بين الحبكات والعقد الروائية مكبَّلًا بأماكن الحكاية أو زمانها، أو كان يربطك بالكاتب علاقة دون أن تختلط لديك المشاعر.
لربما القارئ المتذوق يتورط تمامًا مع الكاتب ويدور في حلقة اتصالية لا يستطيع أن ينفكَّ عنها كما يفعل الناقد المتخصِّص بأدواته الجراحية لتشريح النصوص. فيقطع الناقد الحبل السري الذي يربطه بالكاتب مباشرة بعد الآلام المخاض والولادة.
لكن مع احترامي للنقد، وكل النقاد، أجد نفسي كقارئة مثابرة يكاد لا يمر يومًا واحدًا منذ سنوات طويلة دون أن أنّهل من جماليات الأدب وأمتع نفسي وأشبع روحي، يحقُّ لي أن أعبِّر عن وقع مشاعر الأدب الجميل على روحي.
(عن وجع لا يُرى) سيرة روائية استطاعت الكاتبة بها أن تصف أدق مشاعر الغربة والاغتراب والشتات بلغة شاعرية، مصقولة كما سبائك الذهب، تشبه أوجاعنا كلنا التي أصابت أرواحنا بفترات مختلفة من حياتنا.
وتزول من نفسك كقارئ خيالاتك التي تلاحقك غالباً عند قراءة أي نصٍّ إبداعي، عن حقيقة الشخصيات في النصِّ وعلاقة الروائي بها، وأنت تقرأ السيرة (عن وجع لا يُرى). لأن الشخوص حقيقية تمامًا.
واستطاعت الكاتبة أن تصف أدقَّ المواجهات النفسية التي شعرتها ابان الثورة الليبية. ووصفت الكثير من مشاعر الخوف والقلق والترقُّب التي عاش بها الناس قبل سقوط القذافي، رابطة الأحداث كلها بمعانٍ عميقة موجعة كما الهجرة والغربة والشتات.
وعرجت على التضاد العاطفي الأمي (نسبة الى الأم) ما بين شعورنا بالفخر بنضوج أبنائنا وسلكهم في سُبل الحياة، وارتباطهم الطفولي الأبدي بأرواحنا وحاجتهم إلينا.
ثم نبذ المجتمعات لكل مَن هم غرباء عنها، مهما أسهموا في نهضتها وخدمتها، ومهما أجادوا لغتها وتعرَّفوا إلى تاريخها وثقافتها وتمكنوا منها.
بالإضافة إلى عدالة الكاتبة وتوازنها في إعطاء دولة الكويت الحبيبة وشعبها الكرام حقهم بما قدموا للقضية الفلسطينية وشعبها.
محظوظة أنني جلست في أماكن كثيرة كتب فيها الكتاب أعمالهم الإبداعية.
واليوم أجلس في منزل وُلد به عملٌ إبداعي جميل من الطراز الرفيع.