عندما نتحدث عن الإصلاح، يتبادر للذهن فوراً سيادة القانون، والمساواة، والعدالة، وحوكمة التشريعات والسياسات والقرارات، والسبب يكمن في أن الحلول المجتزأة والقسرية لا تصنع واقعاً مشرقاً للدولة - أي دولة - ولا تعطي مبدأ سيادة القانون مداه ومعناه، ولا تمكن العدالة من إظهار صورتها المشرقة ووجهها البهي، حتى أضحى الحديث عن الإصلاح أمنيات مشوهة يتم الحديث عنها في الاجتماعات والمنتديات والمؤتمرات.
وإذا كان القرآن الكريم قد حسم حدود المسؤولية الجنائية والاجتماعية والمساءلة في انشغال الذمة وضوابط الحرية وفضائها الواسع، ومدى جواز تقييدها لاعتبارات خاصة بقولة تعالى ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ) فإن الجلوة العشائرية تجسّد هذا المفهوم المؤلم الذي يتوجب معالجته بحسم قبل الولوج في أي مظهر إصلاحي من مظاهر الحياة العامة.
لم أجد مبرراً معقولاً للجلوة العشائرية في المئوية الثانية رغم صعوبة الواقع الاجتماعي، وموجبات السلم الأهلي والأمن الوطني، ولكن مبدأ سيادة القانون في الدولة القوية يتقدم على كافة الاعتبارات الأخرى. والأردن دولة قوية بمؤسساتها وأجهزتها لا يعجزها فرض هيبة الدولة بقوة القانون ويحترم منطوق القرار القضائي، سواء في الإجراءات الأولية، أو في مضمون القرار النهائي؛ لأن الجلوة العشائرية تشكل حالة من العقاب الجماعي الاجتماعي القاسي أحياناً الذي قد يتفاقم بدرجات ومستويات ظالمة ويرتب انعكاسات سلبية وكبيرة على الحالة الاجتماعية والإنسانية والتي لا يمكن جبرها غالباً في نهاية المطاف.
رغم كل المبررات الاجتماعية ومع الإشارة إلى مزايا حجب الشرّ، ومتطلبات إصلاح ذات البين إلا أن حق الفرد في حماية أمنه الشخصي وحقه في الإقامة الحرّة في أي مكان على الأرض الأردنية هو حق دستوري مقدس، والجلوة قيد لا يليق بقدسية الحقوق الدستورية؛ لأن العقاب الاجتماعي الجماعي هو اعتداء على حرمة تلك الحقوق، وافتئات على مبدأ سيادة القانون، وتعايش المؤسسات العامة على هذا الواقع المشين يضعنا أمام انتقادات دولية وفي مقدمتها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية في العالم أجمع، سيما أن الدولة الأردنية دولة قوية وتستطيع فرض هيبة القانون بسهولة ويسر.
لا أتحدث من منطلق نظري وأنا إبن عشيرة ما زالت تمارس هذه الأدوار بشراسة كغيرها من العشائر الأردنية، ولكن متطلبات بناء الدولة الحديثة تقتضي أن نغادر أساليب الاستقواء على الدولة أو المستضعفين الذين لا حول لهم سوى الانصياع لظروف مختلفة طوعية أو قسرية، وفي كل مرة تكون الأضرار الاجتماعية أو النفسية أكبر بكثير، وأكثر أثراً من فوائد الجلوة التي فقدت مزاياها مع تطور الدولة، واستقرار الناس من حالة الترحال التي كانت ترافق الواقع الاجتماعي في البوادي حيث لا وظائف ولا مدارس ولا جامعات ولم تكن الدولة قادرة -وقتذاك- على بسط الأمن في كل أرجاء الوطن.
المطلوب في هذه المرحلة اجتثاث كل الممارسات التي تشوه مسار دولة القانون والمؤسسات ومفاهيم سيادة القانون والعدالة الاجتماعية. ولم يعد مقبولاً تبرير هذه المظاهر التي أضحت عبئاً على مفاهيم الدولة الحديثة القائم على شرعية المحاسبة والمساءلة وأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ايًاً كانت طبيعة هذه العقوبة، أو ذلك التدبير، وإن كنت أميل أن نتخلص من هذه الظاهرة بتوافق اجتماعي، يبقى إطار هذا التدبير بالجاني وحده دون أن يمتد أثره لأي شخص آخر.
وعلى هذه الأرض السمحة المقدسة دائماً ما يستحق الحياة.