بمقالتي السابقة عن منهجة الفوضى قلتُ أن الفوضى هي عادةٌ و سياسة و هي مُكتسبةٌ و مُتَعَمَدَةٌ و قد تنتج عن الجهل أو التجهيل و يمارسها أفراد المجتمع و المجتمعات و الحكومات لتحقيق مكاسب مختلفة. و الفوضى ليست منهاج الفطرة و لا الكون فهما بُنيا على النظام. و هي ليست منهجاً تعليمياً بالمدارس، إلا أن درست نظريتها الرياضية الحسابية، و درست آثارها السلبية على العباد و البلاد، من أمثال العشوائية و الفقر و الفساد. و هي تتفشى بين المجتمعات و الأفراد عندما يضعف أو يتهاون القانون في معالجة إفرازاتها السلبية. و هي عند الحكومات القوية و الضعيفة قد تكون خطة عمل، فإشاعة الفوضى عمداً عند خصمك تُضعفه و تُقويكَ. عَلَّقَ قارئٌ علئ المقالة بأنها تشخيصُ من دون حلول. والحقيقة أن التشخيصَ هو بدايةُ السعي للحلول. فما هو الحل؟
أرى الحلَّ في مؤسستين إن صَلُحتا صَلُحَ الباقي. مؤسسة التربيةِ و التعليم و مؤسسة العدالةِ وإنفاذها. كل جوانب الحياة التي نعرفها تستقي من هاتين المؤسستين.
مؤسسة التربية و التعليم بها عنصرين و التغذية بينهما متوالية. لا انفصال بين تربيةٍ و تعليمٍ. إن كانت التربيةُ تُفْهَمُ أنها بيتية فهذا صحيح لكنها قد تكون تربيةً سيئةً يجب تقويمها و التعليم الجيد هو المُقَوِّمُ الأساسي. منهاج التعليم الصحيح الذي يبني في الجيل مبادئ نهضةِ الأمم و يرتبط بالتربيةِ بالمنزل هو الذي يصونُ من الفوضى التالية. لكلِ قاعدةٍ شاذ و لن يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون لكن السيادةَ هي حتماً للمتعلم المُتَرََبي على الأخلاق الحميدة و العلم المستنير. واحدٌ يسند الآخر و يقويه. و لهذا فإن الاستثمار في التعليم الرسمي و الخاص ضمن أُسسَ صحيحة و بضمان رِفعةِ المعلم مادياً و معنوياً و تقديس عمله مجتمعياً و حمايته من أساسيات التطور و نبذ الفوضى. قيل في هذا مجلدات و لكن المعلم العربي وصل فعلاً لمستوىً يصعب قبوله فكيف يستطيع العطاء و مهمته محاصرةٌ بأعباء لا قبل له فيها؟ و لهذا نرى فوضى تنبع من قلةِ تربية و قلةِ تعليم.
أما العدل فهو أساس الحكم. و أعني بالعدل كل أدوات تنفيذه من التشريع و الشريعة للقضاء و للمكلفين بحفظ حقوق و أمن الناس و ضمان عدم تجاوز ممارسة الحرية للفوضى و التشظي الإجتماعي. أي تهاونٍ في أي حلقةٍ من هذه السلسلة كفيلٌ بأن يخلق الفوضى التي حتماً ستقلب الموازين. و الأمثلة كثيرة. وإبقاء العاملين على العدل مستقرين مادياً، فلا يعوزون مدَّاً من خارج معاشهم، هو أساسٌ جوهريٌ لكي لا يميلوا نحو الكسب الحرام فينقلب العدل ظُلماً. و عليهم أن يستقروا معنوياً بما يتمتعون به من مركزٍ عالٍ في المجتمع فلا يستخدموه للمآرب الشخصية. إن صلاح العدل هو صلاحُ البلاد فما من شكٍّ في ذلك.
بين هذين الركنين إن صلحا تنضوي باقي الأركان التي تحتاجها الإنسانية مطمأنةً و معطاءةً و عندها تنكفئ الفوضى. إن العلمَّ يبني بيوتاً لا عماد لها و العدلُ يحميها. و ما من أمةٍ استهانت بالعلم و التربية و بالعدل إلا و ذاقت مرارة الفوضى لأجيال كل واحدٍ منخا يلعن الذي قبله و لا يهيئ الذي يليه بمقومات النجاة.
هذا هو الحل. ما أبسطهُ و ما أصعبه.