كنت في الطابق الثامن من وزارة الاعلام العراقية ، والساعة تشير الى العاشرة ليلا ، من عام ثلاثة وتسعين ، وانا انتظر لاقابل وزير الاعلام العراقي ، آنذاك.
لحظات مرت كنت احاوره حتى جاء السؤال الذي اثار جنون الوزير رغم انه سؤال من حق اي صحفي ان يسأله ، فينفي الوزير المعلومة او يؤكدها ، يومها سألت الوزير هل سيقيم العراق اي علاقة مع اسرائيل في المستقبل ، والسؤال بلا شك حساس ومحرج ، غير انه يبقى سؤالا ، فأحمرّ خدّا الوزير ، وقال انني لو لم اكن ضيفا على العراق لتم رميي من الطابق الثامن حيا ، مضيفا انني "لو كنت عراقيا" لتم اعدامي رمياً بالرصاص ، وارغى وازبد وانهى المقابلة ، بطريقة خشنة ، وخرجت وانا احمد الله انني لست عراقيا ، في تلك اللحظة ، على الاقل ، على الرغم من عشقي الشديد للعراق.
التغطية الصحفية في العراق من اخطر التغطيات ، وذات يوم من عام خمسة وتسعين ، كنا قرب البصرة بانتظار الحافلة لزيارة منطقة الحدود العراقية الكويتية ، لرؤية "الخندق" الذي حفره الكويتيون على الحدود ، يومها وصلنا ظهرا ، ووجدنا مئات المزارعين العراقيين الذين بدأوا بالتظاهر لحظة رؤية وسائل الاعلام ، وحملوا على اكتافهم انابيب ري الماء البلاستيكية السوداء من الحجم المتوسط ، وتوجهوا الى "الخندق" من اجل عبوره باتجاه الكويت ، فيما ردت القوات الكويتية والدولية باطلاق كميات هائلة من الرصاص ، ظنا من بعضهم ان المزارعين العراقيين يحملون اسلحة على اكتافهم ، يومها كان يوماً لم أرَ مثله في حياتي ، فالرصاص ينهمر من كل جهة ، والغبار يقتل الانفاس ، ولا تعرف هل ستعود حيا ام ميتا.
سافرت الى العراق لاول مرة بالطائرة ، في طائرة كسر الحصار ، الاولى اردنياً ، ولاول مرة ارى بغداد الفاتنة من الجو ، كان قلبي يخفق بشدة ، لاني احب بغداد ، ولان الزيارة تكسر الحصار ، وكم كان مثيرا رؤية جداول الماء والنخل من السماء ، وفي تلك الزيارة جرت مفاوضات حول تزويد الاردن بالنفط ، وكان الوفد الاردني برئاسة رئيس الحكومة يحظى بتكريم عراقي رسمي في احد المطاعم ، غير ان حظي العاثر قادني الى المطبخ ، بدلا من "التواليت" الذي كنت انوي الذهاب اليه ، لارى وزير النفط العراقي يستشير مسؤولا عراقيا اعلى بشأن سعر النفط النهائي الذي سيتم منحه للاردن ، وخفضه من تسعة عشر دولارا الى خمسة عشر دولارا ، عبر هاتف موجود على نافذة الخدمة في المطبخ ، وهو مكان لا تصدق ان استشارات نهائية تجري فيه وعبره ، وقفت لاتسمّع المكالمة ، حتى باغتني ضابط عراقي ، وامسك بي بعنف ، مهددا متوعدا ، لولا تدخل الوزير العراقي وحله المشكلة ووجهه يقول انه لا يريد ان يحلها ، لولا حرج المناسبة.
بغداد تحت الاحتلال قصة اخرى ، فقد سافرت بالطائرة الى بغداد ونحن صائمون في رمضان الفائت ، وحين تهبط الطائرة في مطار بغداد الدولي ، تتذكر صواريخ المنطقة الخضراء ، وصواريخ التنظيمات ، ويتسبب الموكب المكون من اربع وعشرين سيارة مصفحة ، وفوقها طائرات هليوكبتر وبالونات حساسة للصواريخ ، باثارة الذعر في قلبك ، ولا تنسى وانت تتناول افطارك في المنطقة الخضراء ، فقراء العراق وشهداء البلد العزيز ، والمنكوبين والجرحى والمرضى والايتام ، ومليون ارملة ، ولا تأكل السمك لانك تتذكر النهر المبتلى بالجثث وبالحزن والبكاء ، ويغص قلبك لاجل العراق ، الذي لم ير يوما مريحا ، وكأن قدر العراق ان يبقى "ركعتي عشق" لا يصح وضوؤهما الا بالدم.
"لو كنت عراقيا" لاعتذرت للحسين ولموسى الكاظم ولجعفر الصادق وبشر الحافي وابي حنيفة وعبدالقادر الكيلاني ، عن كل هذا الدم المسكوب من اكف الشهداء من كربلاء الى بغداد ، المنساب كنهر جارف منذ الف عام ، واكثر ، ولسكبت دمعة في بئر الكوفة العذبة ، ولقلت للنخل العراقي.. "اذا انحنيت انت فمن بعدك له قامة بين القامات".
يا لدم الحسين الذي لا يجف ابداً.
(الدستور)