التعليم المهني بين متطلبات الحاضر وضرورات المستقبل
فيصل تايه
18-09-2021 10:54 AM
وجه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الحكومة في أكثر من مناسبة نحو المزيد من الاهتمام بالتعليم المهني ، ووضع الآليات المناسبة لتطويره بحيث تأخذ بالاعتبار ما ينسجم مع الاحتياجات الفعلية لسوق العمل وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في مراحل التعليم المهني المختلفة ، كما وركز جلالته ومن خلال الورقة النقاشية السابعة على ضرورة أن نوجه تعليمنا نحو متطلبات المستقبل بكل همة ومسؤولية ، ذلك بضرورة أن نؤمن جميعاً بمتطلبات الالفيه ، التي تستدعي توجيه المؤسسات التعليمية نحو مستقبل الأجيال وفي مختلف المجالات الأكاديمية والمهنية ، والمشاركة في رسم الوجه المشرق لأردن الغد ، واغتنام الفرص وابتكار الحلول المبدعة لما نواجهه من عقبات وتحديات ، ولا يكون ذلك إلا بمنظومة تعليم حديثة ، تؤسس لتوجهات الطلبة وتحترم رغباتهم وتوسع مداركهم وتعمّق فكرهم وتثير فضولهم وتقوي اعتدادهم بأنفسهم ، وتصل بهم إلى العالمية، على أجنحة من الإيمان القوي ، والثقة الراسخة، والاعتزاز بهويتنا الإسلامية والعربية وتراث الآباء والأجداد.
ان التأكيدات الملكية على أهمية التعليم المهني تنبع من الرؤى الملكية السامية ، نحو مستقبل هذا البلد ومستقبل الأجيال اللاحقة ووفق ما يتمتع به أبناءنا وبناتنا من طاقات هائلة وقدرات كبيرة ومواهب متنوعة ، تتطلب بالضرورة اسثمار مدارسنا ومعاهدنا المهنية وجامعاتنا لتكون مصانع للعقول المفكرة والأيدي العاملة الماهرة والطاقات المنتجة ، لنرى مدارسنا وقد تحولت الى مفارز تكتشف فيها ميول الطلبة وتُصقل مواهبهم وتُنمى قدراتهم ، التي تحمل بشائر الارتقاء والتغيير نحو مستقبل واعد.
اننا واذ نتحدث عن هذا الموضوع ، لا بد من مراجعة ما فرضته علينا جائحة كورونا وما خلفته من تداعيات أدت الى فقد فرص العمل في القطاعين العام الخاص وتذبذب الاستثمارات المحلية ، ما استدعى بالمطلق التوجة إلى التعليم المهني والتقني ، حيث ان هذا النوع من التعليم يشكل طريق النجاه من شبح البطالة التي أصبحت هاجسا يؤرق كافة أجهزة الدولة وهو أيضا المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل ويشكل حجر الأساس لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في مختلف القطاعات.
دعوننا نتطلع على تجارب الدول المتقدمة فيما يتعلق بتسلسل مراحل التعليم المهني والفني ونستفيد من تجاربها الرائدة ، فخلال زيارتي الى بعض الدول الاوروبية وخاصة المانيا ، لاحظت أن نظام التعليم المهني فيها هو أحد أفضل نظم التدريب والتطبيق العملي في العالم مع إمكانيات الاستفادة منه ، لكن ذلك يتطلب تغيير الثقافة السائدة التي تصنف المهن إلى لائقة وغير لائقة ، فالكثير ما يزال يرى في الالتحاق بمختلف صنوف التعليم المهني مسألة لا تليق حتى لو جلسوا في البيت عاطلين عن العمل، وحتى في الحالات التي يتعلمون فيها هذه المهن فإنهم لا يتقنوها بالشكل الذي يمكنهم دخول سوق العمل بالشكل الذي يمكنهم من المتابعة.
لكن الأمر مختلف في الدول الصناعية المتقدمة وهذا ما شاهدته وتابعته شخصياً فغالبية الشباب هناك يتوجهون نحو المهنة وفقا لما يتطلبه سوق العمل ، حيث يقوم نظام التعليم المهني على تعليم المتدرب وتعريفه على ظروف عمل حقيقية كتلك التي ستواجهه في سوق العمل لاحقا وتكون حصة التدريب العملي ثلاثة إلى أربعة أيام ، بينما تأخذ الحصص النظرية يوم إلى يومين في الأسبوع حسب طبيعة المهنة ، أما تمويله فيتم بالتعاون بين السلطات والمؤسسات التي تستقبل المتدربين ففي الوقت الذي تساهم فيه الأخيرة مع البلديات وسلطات الأقاليم في تمويل الورش المتخصصة ودفع أجر للمتدرب، تقوم السلطات الحكومية المركزية بتمويل التعليم النظري ومتطلباته.
ان بعض البلدان العربية تهتم بنظام التعليم المهني وفقا للتجربة الالمانية والتي يتطلب اقامة عدة مدارس ومعاهد مهنية وتوفير البنية التحتية اللازمة و استعداد الشركات والمؤسسات الاقتصادية على استقبال الشباب المهيئين للتدريب وفق خطة وطنية شاملة يتحمل مسؤوليتها جميع الاطراف وهذا ما شاهدته خلال زيارتي الأخيرة لمصر حيث لاحظت قيام السلطات الحكومية المصرية المعنية بحملة توعية وتقديم برامج دعم مادية ومعنوية وتسهيلات بهدف إقناع الشركاء في القطاع الصناعي بأهمية ذلك من خلال توضيح المنافع التي تحصل عليها من خلال هذا الاستيعاب. ويأتي في مقدمتها تأمين قوة العمل المؤهلة والشابة والقادرة على تحسين أداء هذه المؤسسات وتعزيز قدرتها على المنافسة من خلال تطوير منتجاتها وخدماتها.
اننا بحاجة ماسة الى تسهيلات حكومية ودراسات معمقة تلبي الحاجات ودعوة كل الاطراف وهذا يتطلب تظافر كل الجهود صاحبة العلاقة بهذا الشأن اذ نحتاج بالفعل الى إجماع وطني لكل أصحاب القرار ، بالرغم من أن ذلك يعتبر غاية في الصعوبة ومن العمليات المعقدة أن نغير أو نقنع جميع الأطراف المشاركة ، إلا أنه من المهم أن نرى تسهيلات متاحة حتى نزيد من رغبة أرباب العمل و المستخدمين و زيادة مشاركة الشركات أو استعدادها للمشاركة في تطوير التعليم و التدريب المهني.
إنني على يقين ان حكومتنا الأردنية قادرة على القيام بالكثير في سبيل توفير تعلم مهني نوعي عن طريق توفير ميزانيات خاصة وكافية من اجل المساعدة و المعاونة في تمويل و استثمار الإمكانيات التدريبية ولاهتمام بالأفراد القائمين بالتدريب وتحفيزهم وأيضا تمويل المواد المستهلكة اللازمة للتدريب وتمويل البرامج التدريبية الخاصة لرفع المستوى المدربين واستحداث هيئات تدريبية رسمية معتمدة وإيفادها في دورات تدريبية خارجية وكذلك فإننا نحتاج إلى تمويل إجراءات تدريبية خاصة أو برامج أبحاث لتنفيذ تكنولوجيات جديدة أو لتحسين إنتاجية الشركات كل على حدة وكذلك نحتاج للمزيد من الاهتمام بالمدارس المهنية وإخضاع معلميها لبرامج خاصة لرفع المستوى للعمالة الماهرة أو ذوى المهارات العالية.
وأخيرا فان على الحكومة أن تبادر بشكل جدي لعقد شراكات حقيقية مع القطاع الخاص وان تتعاون في سبيل تكرس الجهود لترسيخ ثقافة جديدة في المجتمع منهجا وأسلوبا وهذا يعني أن جميع الإجراءات ينبغي أن تبدأ بمساعدة من الحكومة، و تستمر بعد ذلك بمعرفة ومساعدة ومساندة القطاع الخاص. لتأخذ الحكومة دورها الحقيقي بعيداً على أنه مجرد تقديم لخدمة، و أنها ليست ألا منظم ، و لا تقدم تمويلا ألا إذا كان ضرورياً لبدأ أو ترفيع بعض أعمال التنمية و التطوير المهني.
وللحديث بقية