لم تحظَ روح، اختارها الله الى جواره، بدعائي اليومي لها بالسكينة والطمأنينة، كما حظيت روح الاديب والروائي الايطالي (امبرتو ايكيو) الذي باح قبيل رحيله بشجاعة، ووصف واقع حال التفاهة التي اطبقت علينا من كل جانب وقال جملته الصادمة ومضى: "ان وسائل التواصل الاجتماعي قد منحت حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا سابقاً يثرثرون في الحانات فقط، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم ، ان علا صوتهم ،من قبل صاحب الحانة فوراً ، أما الآن فانهم يتكلمون مثل مَنْ يحمل جائزة نوبل، إنه فعلاً غزو الحمقى".
صحيح ان وسائل التواصل الاجتماعي حققت عدالة نسبية في ايصال كلمة المهمشين والفقراء والبسطاء، الا انها بالمجمل اسهمت في نشر ثقافة الكراهية والتشظي بين الافراد والمجتمعات، وحتى بين مكونات المجتمع الواحد، كما لم تكن منتشرة في أي فترة تاريخية سابقة، كما ساهمت في تسطيح وتسخيف قضايا كبرى حذر علماء وفلاسفة ومفكرون من تداولها بين " العامة" خوفاً من تمييع تلك القضايا ووأد أي سجال او جدل ذي قواعد منهجية بهدف تحري البحث والفهم بحثاً عن حلول لتلك القضايا.
الايطالي ايضاً، ميكافيلي صاحب كتاب الامير، من سبعة قرون، اكد انهّ يمكن للعقلاء فقط تمييز الشّرور قبل وقوعها و معالجتها بسهولة، ولكن إذا أدّى الافتقار إلى المعرفة إلى بقائها، واستمرارها بدون حل حتى يصبح تداولها وتشخيصها في متناول كلّ إنسان؛ فإنّه سيتعذّر العثور على علاج لها. وهذا للأسف ما نجد شواهد له في واقعنا المعيش كل يوم، حيث تتحول القضايا الكبرى من مواضيع ، الاصل فيها قضايا تحتاج الى تفكيك بنيتها بالبحث والحوار والتمحيص، عبر سجال فكري ،للتحقق من تماسكها منطقياً وعلمياً ومعرفياً، ومن مدى قابليتها للاستجابة لتحديات الواقع وقدرتها على الوفاء بمتطلبات المجتمع ونفعه، الى سباب وشتائم وتهريج وصولاً الى أحوال مأسوية و فشل وخراب يفوق التصور في كافة المشاريع والمخططات والتوقعات.
الثقافة العربية الاسلامية ، كانت اكثر حدةً تجاه " العامة" فالقاموس العربي زاخر بمترادفات صادمة للعامة، كالدهماء، والرعاع، والغوغاء والاغمار، فسيدنا علي بن ابي طالب نعتهم بأقسى الاوصاف، وقال عنهم( اجتماعهم مضرة وتفرقهم منفعة ) ، وابن اسحق له كتاب في (مساوئ العوام وأخبار السفلة والأغتام) حتى ان الامام الغزالي الف كتاباً قبل موته وختم فيه انتاجه المعرفي به اسماه( الجام العوام عن علم الكلام).
انا لا اعتب على اولئك الذين غيروا مكان الجلسة، وانتقلوا من الحانة ليرتقوا المنصات، بل على النخب التي انقسمت الى خندقين؛ خندق عزف وانعزل وتمنع عن الحضور الايجابي على تلك المنصات، وغائب تماماً عن الواقع الافتراضي، اما لنظرة دونية لهذا الواقع، او خشية من التنمر، او جهل لهذا الواقع، وخندق اخر اكثر خطورة تماهى مع اولئك، و ما يلوثون به اسماعنا وابصارنا، بل تطوع مثقفوه وهانت عليهم عقولهم، بحثاً عن الشعبوية، للعمل كمراسلين مجانيين لنشر ثرثرتهم واحكامهم واحباطهم للمجتمع وأصبحوا ينافسون الحمقى ويبررون مسلكهم بمجاراة الواقع.
وحتى لا يساء الفهم، فمفهوم النخبة ليس طبقياً، وغير محصور بمستوى تعليمي معين، فالكواكبي وصف النخبة" بانهم الاخوة الناصحون للمجتمع" وتاريخياً كان من غير المتعلمين نخباً قادت الراي العام و وجهته وحققت انجازات ومكتسبات اجتماعية واقتصادية وعلمية وحضارية، وكانت جزءاً لا يتجزأ من النخب المناضلة لحماية القيم الانسانية النبيلة وكبح قوى الغوغاء العدمية وتحقيق رفاهية المجتمع في اطار اخلاقي وجمالي.
ايها النخب، ايها الاخوة الناصحون للمجتمع، إذا كان لنا ان نتجاوز الاوقات الصعبة الحالية، وننجز اصلاحاً مجتمعياً وسياسياً واقتصادياً حقيقياً، فمن الضروري كبح الروح العدمية والجام الشعبوية التي تطبع الكثير من النقاشات والتفكير في الفضاء العام. فالأزمة هي أزمة مجتمع وأزمة امة فاقدة للمشروع الحديث والمشبعة حتى العظم بالطوباوية، والا فالبديل السهل والمريح " ضع عقلك في جيبك، واتبعهم".