الأخلاقيات الطبية والصحة المكلومة!
د.علاء سليمان عبيدات
16-09-2021 02:05 PM
إن أحداً لا يُنكر أبداً المستوى الرفيع الذي وصل له الأردن في الطب على المستوى العربي والإقليمي، وعلى أيدي علمائه الرواد (مع حفظ الألقاب) أمثال دولة المجالي، وحنانيا، وحجازي، وملحس، والعجلوني، والحسبان، والبشير، ومشعل وغيرهم. ولكنني هنا لا أريد الخوض في هذه النجاحات التي عَرف بها العالم الأردن مثالاً في التطور الطبي، والذي جعله رقماً صعباً لا يجاريه منافس، على الرغم من ضيق الحال والأحوال. ولا أريد هنا الخوض في المسؤولية والمساءلة الطبية لأنني لست متخصصاً كالحديدي مؤمن، ولكنني أعترف بأنني كنت من المحظوظين الذين تابعوا، ودرسوا فلسفة الطب والأخلاق في الجامعات، والمستشفيات البريطانية، والأسترالية كباحث. ولقد كنت استغرب لماذا تصر جامعات الغرب، وكليات الطب تحديداً بإشراك وتعيين أساتذة يحملون درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجي (علم الإنسان)، والأديان، وعلم الإجتماع، والقانون، وكذلك علم النفس واحياناً الإدارة والتسويق؛ لتدريس علومهم وخبراتهم لطلبة كلية الطب، حتى ظننت بأن ذلك من باب المبالغة والرفاهية الزائدة! لأنني كنت متأثراً بالعقلية العربية والتي تفرض بأن يكون أعضاء هيئة التدريس في كليات الطب العربية، هم من الأطباء فقط، والذين يحملون درجة الدكتوراه، والماجستير، والبكالوريوس في الطب مجتمعة، ولكي لا ينافسهم أو يعاندهم أحد بالقرار من التخصصات الأخرى الآنفة الذكر، وإن كان صائباً، ويبدو ذلك حرصاً من الأطباء أنفسهم على (برستيج) كلياتهم، وألقابهم، وسينيه قمصانهم.
ولا أريد الخوض أيضاً في الحوادث المتكررة في مستشفياتنا، مثل إنقطاع الأكسجين، والكهرباء، وانفجار الزوائد، والأعتداء على الأطباء، وغيرها من الحوادث الكثيرة، والتي أثرت على الإرث الطبي الأردني. ولكنني سأكتفي ببعض المشاهد التي رأيتها بأم عيني عندما اصطحبت أحد أقاربي إلى طوارئ إحدى المستشفيات الكبيرة في الأردن، والذي أصيب بجلطة دماغية أفقدته الوعي والإتزان، ولم يكن هنالك أحد في الطوارئ إلا تلميذة متدربة، لكي تقوم بتركيب بربيش البول (الكاثيتر) لوحدها دون إشراف مباشر من مشرفها، بل اجتهدت واستعانت بإثنين من عمال النظافة لكي يساعداها على جلوس المريض على السرير، ليسهل عليها القيام بذلك الإجراء، ولا أنكر بأنها نجحت بالفعل! ناهيك عن المشاهد الدرامية الأخرى في أقسام الطورائ، والذي يشهدها معظم الأردنيين والأمثلة كثيره والشهود أكثر!
وأذكر ايضاً، بأنني تشرفت بمقابلة أحد مدراء المستشفيات الراقية في العاصمة عمان، وكان بالمناسبة وزيراً دمثاً للصحة (قبل كوفيد) لأعرض عليه خبراتي كمتخصص وأكاديمي، وأحمل درجة الدكتوراة في الأخلاقيات الطبية من أرقى جامعات العالم من حيث السمعة الأكاديمية، والبحثية، والتي تحتل الرقم (50) على مستوى العالم وفق التصنيف الأكاديمي، ليجيبني بكل لطف ووقار.. لسنا بحاجة الى تخصصك في الأخلاقيات، ولا أريد هنا بأن أظلمه لأنني حينها أيقنت تماماً بأنه لا يقصد الإساءة، بل خانه التعبير فقط، وقصد بذلك، بأن المستشفى بحاجة الى تخصصات كلينيكية، أو فنية بحتة، ولأنه ايضاً مسؤول أمام مالكي المكان حسب ظني!
واذكر كذلك، بأنني تحدثت إلى كثير من رؤساء الجامعات، والعمداء، ورؤساء الأقسام في جامعاتنا الحكومية، والخاصة، في محاولة مني لتدريس مادة الأخلاقيات الطبية في جامعاتهم (وأعني هنا جامعاتهم) وقد أجابني كثير منهم.. إنت ما لقيت غير هيك تخصص تدرسه!
لهذا، فلقد إزداد إيماني بالأخلاقيات الطبية، وأدركت تماماً بأن التنوع في الخدمات والرعاية الطبية يجب أن لا يكون مقتصرًا على الأطباء فقط، أو المهن الطبية الأخرى المساندة، بل يتعدى الأمر إلى إشراك الخبرات الأخرى من ذوي الإختصاصات الإنسانية، والإجتماعية، وذلك تحقيقاً لمفهوم الأخلاقيات الطبية، والتي تجسد التعريف الطبي للمريض، بأنه حالة من التوافق الفيزيائي، والنفسي، والإجتماعي.
وعودة إلى القرار الأخير، بأن ينتقل فلان، ويحل محله فلان، ويعين فلان، ويحاكم فلان رداً على حادثة الطفلة (لين) ولإعادة الهيبة والوقار للصحة المكلومة!
وهنا، فإنني لا أدعي العلاج، ولا أزاود على وزيرنا المحترم والمكلوم، ولا أدعي الحل، ولا القرار، لأنني لست من أصحاب القرار، بل ولا أعرف كيف يتخذون قراراتهم.
ولكن، بالنهاية أقول.. أعانك الله أيها النائب العام على نوائب الصحة في بلدنا الحبيب!
بل وأخشى ما أخشاه بأن يأتينا المريض يوماً ما الى مستشفياتنا وطوارئنا فيقول: لا أريد من أحدكم تشخيصاً إلا بوجود المحامي بتاعي!