ذَرَّفَ على الأربعينَ، وتَظنّه لم يُجاوزِ الثلاثين، إذا ما رأيتَ رأيتَ رجلًا عُرِّفَ (زُيِّنَ) بالخصال الحسنة، والأخلاق الحميدة؛ له من الرّزانة قِدْحٌ مُعلّى، ومن الكَياسَةِ سُلّمٌ ومُعْتلى، كان يومًا ما في مدارسَ عتيدةٍ وكيلًا، وعلى الطلاب والمعلمين قائدًا ومسؤولًا، ولدى الإدارة أستاذًا رسولًا.
غير أنّه بعد طولِ مَقام، لم يألفِ الأستاذ "رشيدٌ الجيّوسيُّ" المُقام، وما طابَ نفسًا للذلِّ والهوان؛ إذْ حاولَ البناءَ فغُلّقتْ في وجهِه الأبواب، وفَكَّرَ راشدًا للأمام فَضُربتْ عليه الأرضُ بالأَسْداد (سُدَّت عليه الطُّرق)، وبعدما يئس مَدحورًا, ولم يَنْهض في المكان هُمامًا أميرًا، اعتذر وتَرَك العمل، وما أَمَّل في أجرٍ ولا ثَمَن، فَشُدِه لِصُنْعِه المُعلّمون، وراحوا يُسدّدون ويُقاربون، ويَذْرفون دموعَهم على الخِوان، ويَسْتمعون إلى ورقةٍ خَجْلى كُتبت بماء العيون:
إنْ كان مِن كلمةٍ بين يدي هذا (البَيْن) يَعزّ علينا، أَنوبُ بها عن زملائي الطيّبين، مستأنسًا بدماثةِ أخلاقِهم وطِيبِ سجاياهم، غيرَ متجانفٍ لِسُمعةٍ ولا رياءٍ– فإنّ اللسانَ يَعجزُ عن الحديث، والمشاعرَ لا تَسْتَجيبُ للوصف؛ إذْ بَلَغتِ الغُصّةُ الحُلْقومَ، واعترت الجسمَ هِـزَّةٌ، فــرحتُ أردّدُ كلماتِ الطّائيّ:
غدا الهمُّ مُخْتطًّا بِفَوْدَيَّ خِطَّةً/ طَريقُ الرَّدَى منها إلى النّفسِ مَهْيعُ
هو الزّورُ يُجْفَى، والمُعاشَرُ يُجْتوى/ وذُو الإِلْفِ يُقْلَى، والجديدُ يُرَقَّع
تَروحُ علينا كلَّ يَومٍ وتَغْتَدي/ خطوبٌ، كأنّ الدهر منهنّ يُصرَع
حَلَتْ نُطَفٌ منها لِنِكْسٍ وذُو النّهى/ يُدافُ له سُـمّ من العيشِ يُنْقَع
وليس الدّاعي إلى هذا نشدانَ فكرةٍ، أو التغنّيَ بثرثرةٍ، يُعْجَب صاحبُها بِجَمالِ عبارةٍ، أو رِقّة إشارةٍ، أو سُمُوّ بلاغةٍ، بل هي رَعْشةٌ سَرَتْ في البَدَنٍ، أَثارَتْ حُرْقة، وقَتَلَتْ أملا، وَوَأَدَت إشراقةً.
كلُّ واحدٍ فينا عنده من المَشاعرِ الصّادقة، والعواطفِ الجيّاشة، ما لو كان أديبًا لكتبَ في "رشيدٍ" كلامًا، ولَسَطَّرَ من خلاله أدبًا، لكنّ الأريبَ اللبيبَ – ولا أظنّ رشيدًا إلَّاه – من الإشارة يَفهم، وما عبراتُكم المتجمّدةُ في مآقيكم، وخفقاتُكم الرّاجفةُ في جَوانحكم، إلا دالَّةُ تلكم المشاعرِ، وهاتيكم العواطف؛ فالرّجل مذ عرفناه يومَ اجتمع إلينا، ألفنا جِواره، وأَعْذَبَنا حَديثُه، فما كان فَظًّا ولا غليظَ قلبٍ، ولا ضيّقَ عَطَنٍ، بل كان واسعَ الصّدر، رقيقَ الحاشية، آلَتْ إلى التعامل معه القلوبُ، وخَشَعَت لإدارتِه الجوارحُ والعُقولُ، وكان في العملِ والإدارة أسلوبًا، وفي الأَخْذِ والعطاء طريقةً، وغدا في التعامل سُلوكًا، أَراحَ من خلالها كلَّ مَنْ كان معه، أَذَنةً وإداريين وطلابًا ومُعلِّمين، وأَغْضَبَ كُلّ رُوَيْبضةٍ لا يُجاوز عِلْمُه أَرْنبةَ أَنْفه، وليس له من الإدارة سِوى الشّتْم والسّباب، وكَبْت حرّيات الآخرين.
فلا ضَرَرَ "رشيدُ" ولا ضِرارٌ، فلستَ بالخِبّ ولا الخِبُّ يَخْدعُك، ولا كنتَ إمّعةً؛ إنْ أحسن الناسُ أحسنْتَ، وإنْ أساؤوا أسأتَ، بل كنتَ ثمرةَ خيرٍ لا تَصلحُ في هذا المكانِ الذي بَدَت للعيان طُلولُه، وباتت أثرًا بعد عينٍ سُقوفُه؛ فالخيرُ –كما قيلَ- هو الذي يَطْردُ الفسادَ، ولا ينبغي بحالٍ للفسادِ أنْ يَطْردَ الحقّ والخير.
لستُ في هذا المقام أديبًا ولا شيخًا، وما كنتُ في الشِّعرِ ضِلّيلًا ولا قتيلًا، حتى أفيَك غيضَك من فيضِك، وما عَهِدْنا فيك إلَّا كلَّ يانعة، كنتَ فيها الوكيلَ الأستاذ، جَلَسْتَ في المكان فَأَوْفَيتَ، وضَحِكْتَ فأسررتَ، وغَضِبْتَ فما أَبْدَيتَ.
ولما انقلبتْ –معشرَ المُعلمينَ- الموازينُ، وغدا للباطل صَوْلةٌ ومُعاونون، وانزوى الحقُّ وأهلُه في السّجون والزّنازين– صار أمثالُ "رشيدٍ" في العملِ نَشازًا وإرهابًا، وأضحى إحسانُه للناس تَطَرّفًا يَسْتَحقّ عليه عِقابًا، بل صار لدى الإدارة العليا تَطَيّرًا غُرابًا، فراحوا يَضْربون فيه أخماسًا لأسداس؛ فقد بَلَغَ السّيلُ الزُّبى، وما حقّق المُنى، فجاوزَ الحدَّ، وأَوْقفَ المَدّ، فقرّروا فيه الحَدَّ، وما دَرَوا أَنّهم بما صَنَعوا جَادوا، فَفَرّجوا الكَرْبَ، ولو عَقَلوا ما فعلوا، فهم في كلّ مرّة تَبين خسارتُهم، وتَنْطق سَفَهًا أَلْسنتُهم.
للهِ درُّ الحسدِ ما أعدلَه، بَدَأَ بصاحبه فَقَتَله! كُنْتَ في الإدارة جديدًا فما أرادوك، وشَرَعْت تُعامل بحقّ الإدارة فَمَنَعوك، وإذْ أنظر إليكَ أقرأ في عُيونِكَ:
وإخوانٍ حَسِبْتُهُمُ دُروعًا/ فَكانُوها، ولكنْ للأعادي
وخِلْتُهُمُ سهامًا صائباتٍ/ فكانوها، ولكنْ في فؤادي
ولكنْ اعلمْ أنّك العَلَم، وأنّ:
فَقْر الجَهولِ بِلا قَلْبٍ إلى أَدَبٍ/ فَقْرُ الحمارِ بلا رَأْسٍ إلى رَسَنِ
قَدْ هَوّنَ الصّبرُ عندي كلَّ نازلةٍ/ ولَيَّنَ العَزْمُ حَدَّ المَرْكبِ الخَشِنِ
قلتُ في رسالة "معلّم العربيَّة": "ما أفضلَ مُنيةً يَحُوزها المرءُ بعد التَّقوى من صُحْبة معلّمٍ! وما أشدَّ ظُلْمةً يُبْتلى بها من عِشْرة جاهلٍ أحمقَ! فالأول يُثير فيك حَميَّة، ويُنير لك دُروبًا، وما الثاني سوى صَفِقٍ غيرِ لَبِقٍ، وَقِحٍ غيرِ لَقِحٍ، بَليدٍ غَيرِ وَليد"، وأقول هنا آسفًا: كنّا في هذه المؤسَّسَة التعليميّة بين الاثنين معًا، وبضدّها تتمايزُ الأشياءُ.
وإذْ نقفُ هذا الموقفَ ساكنين، أَسْتَذكرُ نونيّةَ الرّنديِّ الخالدةَ، فهي تَصْلحُ في أزمانِ النَّحْسِ إنشادًا، إذا اعتلى الرّويبضةُ مَزْهوًّا بزينةٍ؛ ففي ذلك أَوْبةٌ إلى الذات، وعَوْدٌ إلى الضَّمير:
لكلّ أمرٍ إذا ما تَمّ نقصانُ/ فلا يُغَرّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتَها دولٌ/ مَن سَرّه زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبْقي على أحد/ ولا يَدوم على حالٍ لها شان
أتى على الكلّ أمرٌ لا مردّ له/ حتى قضَوا، فكأنّ القوم ما كانوا
أخي رشيدُ،
أرجو أَنْ تبقى حيثما حَللتَ وارتحلتَ نَجْمًا عَهدناه ساطعًا، وعَلَمًا ألفناه مُحلّقًا، فلك منا عرفانٌ بجميلٍ لا يَنْقطع، ودعاءٌ للهِ خالصٌ، أن تنالَ أجرًا على قَصْدٍ عَقَدْتَه، وثوابًا على مَعْروفٍ صَنَعْتَه.
اللواء / 1997