يخطر لك أن تقلب قوائم الاتصال في هاتفك الخلوي، فتمر بمئات الأسماء والأرقام المتزاحمة. أصدقاء وأقارب ومعارف وزملاء. وآخرين كثيرين يشغلون حيزا دون أثر. من هؤلاء؟، أناس قابلتهم في دوامة الحياة ثم ابتلعتهم الطرقات من جديد. لا بد أنهم مثلك يتأملون اسمك في قوائمهم بذات الغرابة: من هذا؟. تمر بأسماء جاء وقت رحيلها، وأسماء تحبك دون حاجة لتأكيدات يومية.
كم من الناس قبلنا وكم من الناس بعدنا. أسماء كثيرة ارتبطت بأماكن وحكايات وظلت في الذاكرة، وبين ذلك كله عمر يتسلل في خلسة من الانشغال.
تجد نفسك مدفوعا خطوات أبعد للسير في المسافات القلقة : كيف تمضي الحياة بين اندفاع وحبور.. بين اشتهاء وفتور.. بين نبضة قلب ورفة عين.
وفي المشوار تساقطت أوراق كثيرة. فقدنا قسرا، جزءا من مساحتنا الاجتماعية وأمننا النفسي. تغيّرنا. تقلّبنا. تقدمنا في التعب. حماستنا للناس والأشياء احتاجت لإعادة نظر، وانسحبت منا الأحاسيس حين تهنا في الزحام.
يصف الروائي الطيب صالح هذا التبدل في احدى كتاباته: «قبل أعوام كان خلية حية في جسم القبيلة المترابط. كان يغيب فيخلق فراغاً لا يمتلئ حتى يعود، وحين يعود يصافحه أبوه ببساطة وتضحك أمه كعادتها ويعامله بقية أهله بلا كلفة طوال الأيام التي غابها.. أما الآن فأبوه قد احتضنه بقوة وأمه ذرفت الدموع وبقية أهله بالغوا في الترحيب به. هذه المبالغة أزعجته. كان إحساسهم الطبيعي قد فتر فدعموه بالمبالغة».
البساطة والتلقائية التي تجاوزت اللزوميات هي فعل ماض. بالغنا، اضطراريا، بالعطف غير التلقائي مثل أبطال «الطيب صالح». في داخلنا شيء سرق في غفلة منا. رغما ً عنا. ثمة محفزات كثيرة لم يعد بمقدورها أن تحرضنا.غابت الدهشة مع آخر عيد كبرنا بعده. وانهمك الانسان بادعاء حياة لا تشبه الحياة..
عبر بنا الزمن إلى أزمان أخرى ، كخليط من الأضداد في عالم مضطرب. ماعاد هذا الإنسان يتفاعل لكثرة ما مر به، مع أن قلبا بهذا الاتساع يعيش فيه. ولازلنا في صعود وهبوط نستجدي ألفة الأمس: بسيطا حميما يهدهد الوقت على مهل.. ذلك حين «يصافحه أبوه ببساطة وتضحك أمه كعادتها ويعامله أهله بلا كلفة» .
الراي.