فـي صحبة الحسن بن طلال (2)
د. جواد العناني
12-09-2021 12:48 AM
كنا نجلس مساءً في حديقة منزل سمو الأمير الحسن، وكانت ساقه قد كسرت من حصان باكستاني أهداه الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق لجلالة الملكة نور الحسين. ولم يكن الحصان مروضاً، فتبرع سمو الأمير الحسن بترويضه، رغم صعوبة مراسه.
وذات مرة خرج الأمير الحسن بصحبة الراحل جلالة الحسين رحمه الله والملكة نور على ظهور الخيل، بما فيها الحصان الباكستاني الذي كانت تجلس الملكة نور على ظهره. وفجأة استدار الحصان، وركل برجليه الخلفيتين ساق الأمير الحسن بكل قوة، فكسر إحداهما. ولما ذهبت لزيارة الأمير ومعي ضمة ورد كتبت عليها «سيدي أرجو لك الشفاء التام، ولكن لا تصدق المثل الانجليزي الذي يقول اكسر ساقاً بمعنى أتمنى لك حظاً سعيداً». ولما قرأ الإهداء نظر إلي وقال «دمك خفيف». ولا اعتقد أنه قد قالها مادحاً.
وبقيت معه نتحدث ونتسامر، وقال لي إن متعته بعد الغروب هي الجلوس في حديقة منزله ينظر إلى الأحياء الشرقية في عمّان. ويتذكر أحداث أيلول عام (1970)، ويقول » لا أعاد الله تلك الأيام». ولما شُفيت ساقه، وعاد إلى حراكه المعهود، نزل إلى الوحدات، وجلس في مقهى يتبادل الحديث مَعَ الشباب بأريحية وسهولة. وتراهم عندما يخاطبهم كيف يرتبكون، ولا يكادون يصدقون أنهم يحادثون أميراً هاشمياً وجهاً لوجه، وبدون ترتيب مسبق.
لقد خَبَرْتُه في الظروف الصعبة، ولما وصلنا تركيا عام 1982 إذا بالأخبار تأتي أن الجيش الايراني قد حاصر «شبه جزيرة الفاو» قرب البصرة.. وهو موقع استراتيجي هام يفتح الباب على مصراعيه للقوات الايرانية لاحتلال أجزاء من جنوب العراق. وكنت أنا أيامها في غرفتي بالفندق أتابع مجريات نهائي كأس العالم بين ألمانيا وايطاليا، ومعي رئيس تشريفات الرئاسة التركية المتحمس لألمانيا، وأنا متحمس لايطاليا. ودخل علينا رجائي باشا الدجاني الذي كان يعمل مديراً لمكتب سمو الأمير الحسن بعد تقاعده نائباً لمدير عام المخابرات العامة.
وقال لي إن سمو الأمير يريدك. وَأسَرَّ إلي في طريقنا إلى جناح سموه أن سموه منزعج جداً من الأخبار. واكتشفت أنه سموه لم يكن قد طلبني، بل كانت هذه مبادرة من رجائي باشا نفسه.
وبادرني سمو الأمير لما رآني، هل سمعت الأخبار؟ قلت «أية أخبار يا سيدي» فقال «أخبار حصار الفاو؟».. قلت «نعم». قال «وهل ترى أن أعود إلى عمان وألغي رحلتي من هنا إلى لندن، أم أستمر في الرحلة؟». ولعلمي بسموه، فإن أي خَيار تقدمه سيكون موضع تساؤل من عقله النير. فقلت له «يا سيدي أنت معك طائرة الجت الصغيرة، وفرق زمن الطيران بين أنقره- عمّان ولندن- عمّان هو ثلاث ساعات. فإذا وصلت الأمور في العراق إلى الحد الذي تصبح فيه هذه الساعات الثلاث فارقة في مصير العراق، فهذا يعني أن الحكاية أخطر مما نعتقد، وأن الأردن ليس عنده الكثير ليسعف الموقف. هل ترى مثلاً أن تستشير جلالته في الأمر؟ قال معك حق. واستمر في رحلته إلى لندن، أما أنا فعدت إلى عمّان.
وفي عام 1978، حظيت بشرف السفر مع سموه إلى لندن. وقد سافر معه كل من الدكتور بسام الساكت المستشار الاقتصادي، والشيخ مجحم الخريشه مدير مكتب سموه آنذاك. وقد كان من المفروض أن يقدم سموه عرضاً للجنة في مجلس العموم البريطاني. وركبت سيارة خلف سيارة سمو الأمير للانتقال من الفندق إلى مبنى «الوستمينستر» التاريخي حيث مجلس العموم. ولكن سائق سيارتي لم يكن بالفهلوة المطلوبة، فسبقتنا سيارة سموه، ووصلت إلى الاجتماع قبلنا. ورفض الحراس ادخال السيارة التي كنت فيها إلى داخل سور المبنى فخرجت أمشي حتى التقيت بأحد الحراس من الأمن العام البريطاني وسألته اين اجتماع سمو الأمير الحسن؟ فنظر إلى قائمة معلقة، وقال اتبعني.
وسرت خلفه حيراناً وَجِلاً، وقررت أن أدخل من باب خلفي إلى قاعة الاجتماع، وأتسلل إلى كرسي في الخلف حتى لا أقاطع الاجتماع. ولكن الحارس الذي قادني كان يمشي مشية عسكرية، وارتطام بسطاره بأرضية القاعة المرصوفة بحجارة صغيرة كانت تحدث صوتاً عالياً. وأخيراً وصلنا إلى القاعة، وإذا ليس لها إلا باب واحد، وعليه قطعة حديدية على شكل حَذوة فرس، فرفعها الحارس بيديه، وقرع الباب بصوت عالٍ ثلاث مرات، وفتح الباب بقوة وصاح «الأردنيون وصلوا». واطلعت برأسي، فإذا الغرفة فيها أكثر من عشرين شخصاً، ويقف د. الساكت أمام خارطة للمستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية، وسموه يشرح عن الوضع في الضفة ومخالفات اسرائيل المستمرة فيها. ولما دخلت، التفت الإنجليز إلي متسائلين عن هوية القادم الجديد، وتسللت أنا إلى المؤخرة حيث يوجد كرسي فارغ، والعرق يتصبب مني. وما كدت أجلس متنفساً الصعداء، فإذا بأحد النواب الجالسين أمامي ينظر إلي ويقول «سيد عناني... هذا ليس مكانك. إن كرسيك هنالك في الصف الأول». فقلت له «أنا مبسوط هنا». فقال «لا أرجوك إذهب إلى المكان المخصص لك». فحشرت نفسي بين الكراسي، وهذا يزيح كرسيه يميناً، وآخر يساراً، ولما وصلت إلى الكرسي المخصص لي. كانت بدلتي بحاجة إلى «كوي»، وأنا كنت بحاجة ماسة إلى منشفة لمسح العرق.
وقدم سموه شرحاً مذهلاً عن تطورات القضية الفلسطينية. وفي المساء جاءت زعيمة المعارضة «مارغريت ثاتشر» إلى الفندق، وكانت في غاية التهذيب والسلوك الراقي في مخاطبتها لسمو الأمير. وشرح لها الوضع في الضفة الغربية، وهي تسأل وهو يجيب. وكان لقاء فعالاً. وبعد مغادرتنا إلى عمّان بشهرين فاز حزب المحافظين بالانتخابات، وصارت «مارغريت ثاتشر» رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، كأول سيدة تحتل ذلك المنصب، وتشكل تحالفاً قوياً مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي انتخب في نهاية عام 1980.
وفي عام 1988، سافرت مع سموه في وفد كبير إلى اليابان في زيارة دولة قام بها سموه مندوباً عن جلالة الملك. وكان الجانب الياباني قد أعد لتلك الزيارة برنامجاً طويلاً مُفصّلاً بغاية الدقة. وأعطونا عند وصولنا المطار كتاباً يبين تلك التفاصيل دقيقة بدقيقة. ونزلنا في فندق «جراند أوتاني»، ذي الألف غرفة أو أكثر. وقد قدم لنا الفندق درساً في الانتاجية، فحين وصولنا لقاعة الاستقبال حتى وصولنا لغرفنا، كان الوقت المخصص أقل من خمس دقائق، أنجز فيها تسجيل أسمائنا، وتم إعطاؤنا مفاتيح الغرف، وركوبنا المصاعد ووصولنا إلى الغرف، لنجد أن حقائبنا قد سبقتنا إلى هنالك.
وأذكر من أعضاء الوفد بجانب سمو الأمير الحسن وسمو الأميرة ثروت وسمو الأمير راشد كلاً من معالي عدنان أبو عودة رئيس الديوان الملكي آنذاك، ومعالي د. فايز الطراونة وزير التموين، وعطوفة المرحوم حسين القاسم محافظ البنك المركزي، وعطوفة د. زياد فريز (وكيل وزارة التخطيط)، وعطوفة نصري عطا الله مدير السياحة.
وفي اليوم الأول طلب منا أن نكون جاهزين الساعة 8:22 دقيقة كل عند السيارة المخصصة له. وينزل سمو الأمير الساعة 8:24، ويدخل سيارته ثم ندخل نحن سياراتنا معه، ليتحرك الموكب الساعة 8:25، من أجل أن يبدأ الاجتماع الساعة التاسعة تماماً. ولكننا لم نطع التعليمات، ولم ننزل إلى السيارات حتى خرج سموه من جناحه وركب المصعد مع حرسه إلى سيارته. ولما نزلنا بعده كانت الساعة قد وصلت 8:26 دقيقة، لنجد أن كل السيارات المخصصة لنا قد غادرت مع موكب سمو الأمير. وانتظرنا حتى رجعت السيارات، وركبنا إلى وزارة الخارجية لننتظر عند بعض الاشارات الضوئية. ووصلنا الاجتماع متأخرين وقيل لنا إن الساعة 8:25 قد حددت لأن الموكب سيمر والاشارات كلها خضراء مما يسمح بمرور الموكب دون تعطيل السير في الشارع، وتعلمنا درساً مهماً.
وذهبنا إلى مدينة «تسوكوبي العِلمية» برفقة ولي العهد الياباني آنذاك. وقد وصلنا إلى غرفة كان أحد المشروعات فيها لمهندس الكتروني يريد أن يطور كاميرا إذا نظرت فيها، تستطيع أن ترى ظهرك وتصوره. وأراد الباحث الذي بدت عليه ملامح الارتباك من وجود ولي العهد الامبراطوري وسمو ضيفه أن يُري سمو الأمير الحسن اختراعه، ولكن الصورة لم تظهر. ولما فشل في التجربة، بدأ المهندس الياباني يعرق عرقاً غزيراً. وفجأه اقترب مني سفير اليابان في عمّان «السيد واتانابي»، ليقول لي، وكنت على علاقة طيبة معه، أرجوك لا تدع سمو الأمير يغادر الغرفة قبل أن يعطي فرصة للمهندس الياباني المرتبك أن يريه اختراعه. وهمست في أذن الأمير بذلك، فقام سموه عن الكرسي، وقال للباحث «نحن اربكناك، دعني ابتعد عنك قليلاً حتى تتمكن من ضبط الكاميرا»، وبالفعل نجح المهندس في تشغيل الكاميرا، وجلس سموه يضحك بصوته المجلجل «الواحد أحسن ما يشوف ظهره». وقال لي السفير «واتانابي»، لو أن الأمير وولي العهد الياباني غادرا الغرفة دون أن ينجح المهندس في تشغيل الكاميرا، لانتحر. وأعلمني أن نسبة انتحار أصحاب التجارب الفاشلة في مدينة تسوكوبي العلمية هي الأعلى في العالم.
كانت الرحلة شاقة بأيامها كلها، مليئة بالعمل والاجتماعات ونحن نشرح عن الاقتصاد الأردني. وقد أصدر الحزب الحاكم الياباني (الحزب الليبرالي الديمقراطي) بياناً بعد الزيارة يؤكد فيه دور الأردن المركزي في حفظ السلام والأمن في منطقة الشرق الأوسط، والتي تشكل منطقة ذات أهمية بالغة بالنسبة لليابان.
وانتقلنا من اليابان إلى الهند في طريقنا إلى عمّان. ونزلنا في نيودلهي، وقد ظهر الفرق الواضح في دقة الاعداد والترتيبات بين الوصول إلى مطار طوكيو من ناحية ومطار نيودلهي من ناحية أخرى. ولما وصلنا الفندق، زار سمو الأمير قبر انديرا غاندي التي اغتيلت بسبب موقفها في معبد أمريتسار التابع لطائفة السيخ حين دفع ذلك الموقف حراسها من السيخ إلى اغتيالها. وقد أُعجبت كثيراً آنذاك برئيس الوزراء الهندي «راجيف غاندي» وشعرت أن الكيمياء بينه وبين سمو الأمير الحسن كانت عالية.
أما أنا فقد التقيت بوزير التخطيط الهندي واسمه الدكتور أطهر حسين. وقد أهداني نسخة عن بحث قام به من أجل تقييم دُور البحث الصناعية في الهند. وقد احتوى التقرير على المؤشرات التي تستخدم لقياس فاعلية البحث العلمي. وأخذت منه التقرير لأنني كنت أنوي أن اقترح على سمو الأمير أن نتخذ من هذا البحث مرجعية لقياس أداء الجمعية العلمية الملكية التي أنشئت من قبل الأمير الحسن لتكون دار بحوث صناعية في الأردن. وقد استوقفتني جملة في مقدمة التقرير التي كتبها الوزير أطهر حسين تقول «من المعضلات المحيرة في الدول النامية أنهم مغرمون بالثورات ولكنهم كارهون للتغيير». ونحن نقول دائماً نريد ثورة في التعليم، وثورة في قطاع الاتصالات والاقتصاد الرقمي، وثورة في الاصلاح السياسي، وثورة ادارية شاملة. ولكن عندما تتطلب مقتضيات هذه الثورة تغييرات في الوضع القائم، تتحول الثورة إلى زوبعة في فنجان.
الرأي