العرب ونوستالجيا الحضارة المفقودة ..
حسن اسميك
05-09-2021 02:16 PM
كان جدي يقول لي: (سافر، غامر، جرب الأشياء وتعرف على الآخرين، اعمل كثيراً وتحدّث قليلاً. لأنك يا بني عندما ستصبح في عمري ستجد وقتاً طويلاً بلا عمل، ستقضيه في الأحاديث، فاغتنم شبابك لتعدّ العدة التي تمدّك بوفرة الحديث أيام هرمك).
مثلت لي وصية جدي هذه جزءاً مهماً من فلسفة الحياة التي رغبت أن أعيشها، لكن هذا لم يحدث دفعة واحدة، بل لقد تدرجتُ في تفسير كلام جدي وتأويله بالتوازي مع ما صادفته ومررت به من مواقف وأحداث حتى اليوم. تعاملت مع الأمر بداية كمجرد فكرة أو رأي، ثم شعرت أنني أصبحت أكثر اهتماماً بهذه المقولة وكأنها نصيحة ينبغي العمل بها، فصرت ميّالاً لتفضيل الأعمال على الأقوال، مؤمناً أن الأولى تستحق التعجيل، بينما لا ضرر في تأجيل الثانية قدر المستطاع. ثم لم يمضِ وقت طويل حتى تحولت النصيحة إلى معيار أطبقه عندما أجالس كبار السن وأستمع لهم، فإذا وجدت في أحاديثهم حكمة المجربين وخلاصة من اختبر المواقف وخرج منها غانماً، حكمت أنهم عاشوا حياة تستحق، وأنهم كانوا قادة فاعلين ومنتجين استحقوا ما وصلوا إليه عن جدارة منحتهم سعادة واطمئنان خريف العمر، فأرى هؤلاء الشيوخ راضين عن أنفسهم، ومتصالحين مع شيخوختهم، ومع مستقبلهم.
نعم مستقبلهم، وليس ثمة خطأ في ما كتبت، هذا أيضاً ما تعلمته من قول جدي الذي استفتحت به المقال. وقد التقيت ذات مرة ليست بالبعيدة أحد كبار السن في بهو أحد فنادق القاهرة، كان في زيارة استجمام وسياحة قبل أن تفرض كورونا قيودها علينا جميعاً، وليس ذكر اسمه بالأمر المهم على أية حال، إذ يكفي أن أقول أنه من أنجح الأشخاص الذين التقيتهم في حياتي، وكان ذا باع عظيم في التجارة والثقافة، كما كان رائداً في الأعمال الإنسانية التي ارتقت جهوده فيها إلى مستوى قريب مما تقوم به الدول والمنظمات العالمية. كان جليسي هذا ودوداً طلق المحيا ومتحدثاً بارعاً في كل الموضوعات التي عرّج عليها حديثنا. سألته متقصداً: أما زلت تفكر بالمستقبل أم توقفت عن التفكير فيه؟ أجاب بعدما قلّب السؤال في ذهنه لبرهة لمعت عيناه على إثرها: أنا لا أفكر في المستقبل.. أنا أعيشه الآن يوماً بيوم وساعة بساعة، فقد كبرت حتى أصبح مستقبلي حاضري. سألته: ألا تحن للماضي؟ قال جازماً: عندما يكون حاضرك جيداً فإنك لا تحن لماضيك.
شغلتني هذه العبارة الأخيرة طيلة فترة إقامتي في القاهرة، غير أن أمراً آخر كان يشغلني أيضاً، وكانت الإقامة في القاهرة سببه هو الآخر، إذ لا يمكنك في هذه المدينة العجيبة أن تتهرب من سؤال الحضارة، وماضي الأمم ومستقبلها، وقد اخترت هذه المقدمة الطويلة عن قصد تستلزمه إشكالية أزمتنا نحن العرب مع حضارتنا التي علت ثم هوت، ومع حنيننا الدائم إليها.
ولكي لا تقع عزيزي القارئ في اللبس بفهم ما أريد قوله، دعني أبين لك موقفي صريحاً منذ البداية، إذ أنني أشعر دوماً بتحفظ شديد تجاه الفكرة التي مفادها أن حياة الأمم كحياة الأفراد، رغم ما في هذا التشبيه من غواية تجعلنا نتحمس له بادئ الأمر، فالأمة ليست انعكاساً ألياً لأفرادها، ولا يصح أن يناظر وجودها وجودهم، بل هي الخلاصة الكيفية لوجودهم الكمي، وما يتبع هذا الوجود من عمل ونجاح يُصهر في بوتقة واحدة تُسمى حضارة. الحضارة باختصار ليست كائناً حياً عاقلاً.. بل هي نتاج هذا الكائن الحي.
(لقد بنى أسلافنا حضارة عظيمة، وكانوا سادة العالم دون منازع، حتى بلغت أنوار آثارهم مشرق الأرض ومغربها)، وهذا كلام صحيح لا يحتاج دليلاً، ومعروف لدى الجميع لا يحتاج إلى الإخبار به، غير أننا نسمعه كل يوم، ويتبارى كثيرون منا في تقديم الأدلة عليه كل يوم، لا لأن أحداً يجهل ذلك فنخبره، أو يرفضه فنقنعه، بل لأننا ابتلينا بالداء الذي يحبط السعي نحو التحضر وبناء المستقبل، ابتلينا بالحنين إلى الماضي، حتى فرّطنا بالحاضر وضيعنا الغد.
نريد أن نحقق ما حققه أجدادنا، ولكننا في الوقت ذاته نقوم بعكس ما قاموا به، فوالله إنهم ما كانوا ليصنعوا ما صنعوه، لو أنهم تشبثوا بالماضي كما نتشبث به اليوم، وأصابهم داء الحنين إليه كما يصيبنا، بل لقد فهموا فلسفة الحياة أكثر مما فهمناها، وعرفوا أن سر الإنجاز والتأثير يكون في العمل لا في القول، وأدركوا أن للتاريخ أذنين لا تصغيان للكلام بل للفعل، فانطلقت في الميادين أفعالهم حتى بلغت الجهات الأربع، وجلس التاريخ في حضرتهم مئات السنين يستمع لما يصنعون ويحفظ لهم آثارهم بكل أمانة واعتزاز.
ماذا لو أن أجدادنا، بعدما بلغتهم رسالة السماء ونقلت وعيهم من ضيق القبيلة والعشيرة إلى سعة الإنسانية كلها، عادوا فنكصوا على أعقابهم يريدون إحياء ماضيهم والعودة إلى جاهليتهم الأولى، أفلن يكون ذلك ضرب من الجنون؟ الجواب نعم. فلماذا لا ننظر لحنيننا لماضينا كما ننظر لحنينهم هم؟
أتوقع أن يقول قائل: (أنهم إذا أرادوا العودة لماضي أسلافهم فستكون عودتهم للجهل والتخلف والشرك، أما عودتنا نحن لماضينا فهي عودة للدين والإسلام الصحيح الذي ضيعناه فضعنا من بعده). غير أن هذا الكلام، ورغم براءته وصحته في الظاهر، فإنه مملوء بمغالطات كثيرة وكبيرة، أدت في اعتقادي إلى أن تؤتي عكس ثمارها، حين اعتقد جمع غفير من المفكرين أن الطريق للمستقبل لن يتحقق إلا بالعودة للماضي، وهذا والله قول يخالف العقل والمنطق قبل أن يخالف الواقع والتاريخ. أما حجتهم أن الماضي هو الدين الصحيح فهذا والله ابتلاء في الفهم والبصيرة، وإنكار لجوهر الإسلام الذي بعثه الله صالحاً لكل زمان ومكان وقوم، فالدين لا يطويه تاريخ ولا ينهيه زمان، بل هو حاضر اليوم بين ظُهرانينا كما كان دوماً لأسلافنا، فلم يذهب بذهابهم، ولن تكون عودته مشروطة بأن نحذو حذوهم، بل الواجب أن نعود نحن للدين انطلاقاً من حاضرنا ذاته نحو مستقبلنا، ولذلك أرى أن مفهوم العودة عندما يراد به الدين فإنه لا يرتبط بالزمن بأي وجه من الوجوه، بل هو أقرب لمعنى العودة بالرأي والسلوك إلى الحق والصواب.
ولا تعني العودة للدين بأي حال من الأحوال أن نتلمس شرائع وأحكام أسلافنا وفتاويهم، ولا أن نأخذ علمهم عن ظهر قلب دون نقد أو تمحيص، ذلك لأن أحكامهم وفتاويهم ليست هي الدين بذاته، بل هي نتاج تطبيقه على أحوالهم المتغيرة فيما بينها، والمختلفة عن أحوالنا كل الاختلاف. إنها بمعنى آخر حصيلة الفقه القائم على العلاقة الجدلية بين الثابت (الدين) والمتغير (أحوال الناس في زمان ما)، حين كان عماد هذه العلاقة الاجتهاد، ذلك المصدر المهم والعظيم للتشريع، والذي مُذ أُغلق بابه تحول اتجاه سيرنا الحضاري من الصعود إلى الهبوط، وما أظن أن تقوم لنا قائمة حضارية في المستقبل بدونه.
ومما ابتلينا به في هذا الصدد أيضاً، وأقصد داء الحنين إلى الماضي، أننا غلّفنا هذا الداء بغلاف ثقافي فكري سميناه التراث أو الأصالة، وقابلنا بينه وبين الحداثة أو المعاصرة، ولست أنكر هنا أهمية التراث وضرورة دراسته والتفكير فيه وتحليله ونقده، لكن بيت الداء يكمن في رفع مكانته إلى مستوى التقديس، ونزع السمة التاريخية عنه حتى صار لدى بعض دارسيه مطلقاً كالدين نفسه، خاصة في القضايا العقيدية والفقهية، حتى لقد عوملت أقوال بعض العلماء وآراؤهم معاملة القرآن الكريم والحديث والشريف حين استبدلناها بالاجتهاد، لنبني أحكامنا المعاصرة على ما قاله أسلافنا منذ ألف عام أحياناً.
تراث أمتنا غني ومهم، لكنه يفقد غناه وأهميته عندما نضعه في غير موضعه، وهذا ما حصل عندما زعمت فئة واسعة من مفكرينا ضرورة أن ينطلق أي مشروع إحياء حضاري معاصر من التراث ذاته، وكما ذكرت أعلاه، يبدو هذا الكلام منطقياً وصحيحاً في ظاهره، ولكن خطورته وخطأه يكمنان في المغالطات التي ينطوي عليها، وأولها أن تراثنا ليس واحداً بل متعدداً ومتبايناً في بعض أجزائه تبايناً يصل لحد التناقض أحياناً، فإلى أي جزء من التراث نعود؟ إن الإجابة على هذا السؤال أودت بفكرنا المعاصر إلى الوقوع في أحد أكبر أخطاء قراءة التراث وفهمه، أقصد خطأ الانتقائية ونزع ما لا يمكن نزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي الذي ورد فيه، ما أدى إلى استخلاص أحكام وصور مشوهة أحياناً ومبتسرة أحياناً أخرى لا تصلح لزماننا ولا تناسب حالنا بأي وجه من الوجوه.
ومن أخطر المغالطات التي تنطوي عليها الدعوة للعودة للتراث زعم بعض المفكرين أنه لا يمكن فهم حاضرنا إلا بالعودة لماضينا، وهذه أيضاً شبه مسلمة يؤمن بها كثيرون دون تردد أو مُساءلة، ولكني أعتقد أنها خاطئة، بل وتخالف أحد أركان فلسفة المعرفة التي قامت عليها حضارتنا السابقة، إذ اشتهر عند فلاسفة العرب أن تحقق المعرفة يكون بقياس الغائب على الحاضر، ولذلك فمن يزعم أن فهم الحاضر لا يستقيم إلا بالعودة للماضي فإنه يقلب القاعدة السابقة رأساً على عقب، فيقيس الحاضر على الغائب، ويتوسل معرفة الحي من خلال الميت، ويستبدل الظن والتوهم بالحقيقة، وهذا برأيي أحد أهم الأسباب التي عطّلت العقل العربي لعدة قرون مضت، فكان ما كان من تخلفنا الحضاري بسبب جمود العقل وتعطله.
أما المغالطة الثالثة فتتعلق بمفهوم الحضارة نفسه، فالحضارة ابنة زمانها ومكانها دوماً، لا يمكن إحيائها إذا كانت بائدة، ولا يمكن استيرادها إذا كانت غريبة، لذلك فإن أي مشروع حضاري جاد ينبغي أن ينطلق من الواقع المتعين ذاته، ويكون محايثاً لثقافة وفكر الأمة في حاضرها تحديداً، ولا قبله ولا بعده، وعلى أيدي مفكريها وقادتها وفلاسفتها وسياسييها المعاصرين لزمانها، وهذا كله مما لا يتحقق عندما نعول على التراث ونتوسله ليكون الرافعة التي تنتشلنا من التخلف وتدفعنا للحاق بركب التقدم والتمدن. وعليه.. أرى أن لا مشكلة أبداً في أي مشروع حضاري يبني مقدماته على القطيعة مع التراث، شريطة أن نفصل هذا التراث عن الدين، وهي النقطة التي ناقشناها من قبل في المقال.
نقطة أخيرة أريد تسليط الضوء عليها لأهميتها، وهي أن أزمتنا مع التراث ليست محصورة فقط بتعاطي التيارات الفكرية الدينية معه، بل ثمة تيارات أخرى علمانية، حملت على عاتقها مشروع إحياء التراث لتعيد على أساسه بناء حضارة معاصرة، ولم تتوقف عند حدود التاريخ الإسلامي، بل تجاوزته إلى ما هو أقدم من ذلك، وصولاً إلى الحضارات التي قامت في منطقتنا منذ آلاف السنين، كالحضارة السورية القديمة بجغرافيتها الواسعة التي تضم بلاد الشام كلها (العراق وجنوب تركيا وسوريا الحالية ولبنان والأردن وفلسطين وسيناء وصولاً لقبرص)، والتي حمل مشروع إحيائها الحزب القومي السوري الاجتماعي بقيادة أنطون سعادة، أو الحضارة الفرعونية في بلاد مصر، والتي نشطت الدعوة إلى إحيائها خلال القرن المنصرم، وتحمس لها كتاب ومفكرون اعتقدوا أن الحضارة كالنبتة إذا ماتت بقيت بذورها، وأن إعادة سقاية هذه البذور واستنباتها سيعيد لها الدور الحضاري ذاته. غير أن العقود التالية لهذه الدعوات أثبتت أن الحضارات ليست كالكائنات الحية التي يمكن استنباتها أو إعادة استنساخها، بل هي أحداث تاريخية فذة وفريدة لا يمكن تكرارها.
أما خلاصة القول.. فإن استعادة التراث وتمثله ليس شرطاً ضروريا لصنع الحضارة، هو فقط أحد عناصرها الثانوية المحتملة، والذي يمكن أن يؤدي دوراً فاعلاً وإيجابياً في النهوض الحضاري عندما يتم التعامل معه انطلاقاً من الحاضر ذاته، وبأدوات وأفكار معاصرة، وهذا يتطلب أول ما يتطلب أن يكف أبناء اليوم عن الحنين للماضي، كي لا يُلبسوا حاضرهم ثوب تاريخهم، ولا يأخذوا عن أسلافهم أفكارهم وعاداتهم وطريقة عيشهم، لأنه وكما لا يعيد التاريخ نفسه، فالحضارة أيضاً لا تفعل ذلك.
فهل سنكف يوماً عن الحنين لماضينا؟ نعم سنكف عن الحنين إليه إذا، وإذا فقط، أصبحت لنا حضارة جديدة في حاضرنا.