انحسار النفوذ الأميركي في العالم العربي
د. مروان المعشر
01-09-2021 11:18 PM
تميل الولايات المتحدة إلى التدخّل في الدول، سواء في العراق أو أفغانستان أو أماكن أخرى، ثم تفشل في تحقيق أهدافها، فتنسحب على عجل، مخلّفةً وراءها موجةً من الفوضى العارمة التي يتعيّن على السكان إما التخبّط للخروج منها، أو التعايش معها.
كان من المتوقّع أن يشهد العالم أفول "حقبة الأحادية القطبية" الأميركية عاجلًا أم آجلًا، مصحوبًا بتراجع حتمي للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. لكن الأركان الثلاثة الراسخة للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، وقوامها الاستقرار وإسرائيل والنفط، تشهد تغيّرات متسارعة تعجّل من وتيرة هذا الانحسار.
لنبدأ أولًا بالاستقرار. لا يخفى على أحد أن السلام الأميركي (الذي يُشار إليه بمفهوم "باكس أميركانا") قد فشل. فالولايات المتحدة أضنتها محاولات إحلال السلام في الشرق الأوسط، والدول العربية تعبت بدورها من أن يُفرض عليها السلام فرضًا من دون مراعاة مصالحها. وهكذا، باتت الفجوة التي تفصل بين أميركا وشركائها العرب أوسع من أي وقتٍ مضى، نتيجة المساعي العقيمة المستمرة منذ أكثر من عقدَين من الزمن من أجل تحقيق السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ونتيجة الحرب الكارثية في العراق، ناهيك عن تفضيل الولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران على حساب مصالح الدول العربية.
لا شكّ في أن الولايات المتحدة ارتكبت خطأ فادحًا حين قرّرت احتلال العراق. فقد وعدت الإدارة الأميركية شعبها بأن الحرب ستكون قصيرة وخاطفة وغير مكلفة، وبأنها ستحظى بتمويل خليجي وتجرّد أحد الطغاة من أسلحة الدمار الشامل المُفترضة. وعلى حدّ تعبير الرئيس جورج بوش الابن، كان هدف الحرب على العراق "بناء أسس ديمقراطية دائمة تحمل معها السلام والازدهار، وتقدّم نموذجًا يُحتذى به على مستوى الشرق الأوسط الأوسع". لكن سرعان ما اصطدمت هذه الوعود الطنّانة التي استندت إلى تفكير سقيم وتصريحات متبجّحة بالواقع المر لحربٍ أزهقت أرواح آلاف الجنود وكبّدت دافعي الضرائب الأميركيين خسائر بقيمة تريليونات الدولارات. ونتيجةً للتداعيات الناجمة عن فشل السياسة الأميركية في العراق (وأفغانستان)، بات الأميركيون ينظرون إلى المغامرات العسكرية غير المحسوبة في الخارج، وإلى مختلف أشكال الانخراط في سائر الدول عمومًا، بمزيدٍ من الشك والحذر.
في غضون ذلك، اعتبر معظم العرب أن احتلال العراق شكّل تدخّلًا سافرًا في شؤونهم، وانتهاكًا لسيادتهم، لا بل لكرامتهم. ولم ينظروا إلى صدام حسين كديكتاتور غاشم، كما كان بالفعل، بل كزعيم أراد أن يعيد إلى الأمة العربية عزّتها. لكن الولايات المتحدة قوّضت بنظرهم هذا الهدف من خلال شنّ حرب أُعدَّت خصّيصًا لمنع أي دولة عربية من التمتّع بنفوذ يُعتد به.
أثبتت مظاهرات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة في العام 2011 لجميع الأفرقاء، ومن ضمنهم الولايات المتحدة، أن الاستراتيجية القائمة على دعم الحكّام السلطويين المقرّبين من الأنظمة الغربية (على خلاف صدّام حسين)، من أجل الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، لم تعد خيارًا مُجديًا. كذلك، أثبت التدخّل الأضيق نطاقًا في ليبيا وسورية، عبر استخدام وكلاء محليين بشكل أساسي، أن القوة العسكرية لا تكفي وحدها لتحقيق الاستقرار.
شكّلت هذه الإخفاقات الكثيرة مصدر إحباط متزايد للولايات المتحدة. وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في مقابلة مع مجلة "ذي أتلانتك" الأميركية في العام 2016، حين قال: "تفادينا سقوط ضحايا مدنيين على نطاق واسع، وتجنّبنا انزلاق الوضع إلى سيناريو صراعٍ أهلي دموي ومديد. لكن، وعلى الرغم من ذلك كله، غرقت ليبيا في الفوضى". وعلى غرار أوباما، ساورت الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن رغبةٌ مماثلة في الخروج من المنطقة.
لكن نقطة الاختلاف الأساسية بين ترامب من جهة وأوباما وبايدن من جهة أخرى، تتمثّل في كيفية التعاطي مع إيران. ففيما قرّر ترامب التخلّي عن الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما في العام 2015، مفضّلًا انتهاج سياسة "الضغوط القصوى" على إيران، يسعى بايدن راهنًا إلى إعادة إحياء هذا الاتفاق. في غضون ذلك، يشعر الكثير من الأفرقاء الخليجيين بأن الولايات المتحدة، رغبةً منها في التوصّل إلى اتفاق، تغضّ الطرف عن تدخّلات إيران المتواصلة في أمن المنطقة واستقرارها.
لا يبدو أن أي رئيس أميركي مستعد لانتهاج سياسة بديلة تتطلّب بذل جهود حثيثة لدعم إطلاق عملية إصلاح جديّة في العالم العربي. والأسوأ أن الولايات المتحدة تميل عمومًا إلى اعتماد سياسة قائمة على ترك بعض "المهام غير منتهية"، كما أظهرت السنوات العشرون الماضية. فهي تتدخّل في الدول، ثم تفشل في تحقيق أهدافها، فتنسحب على عجل، مخلّفةً وراءها موجةً من الفوضى العارمة التي يتعيّن على سكان الشرق الأوسط إما التخبّط للخروج منها، أو التعايش معها ضمن ظروف أقسى بكثير من السابق. وخير دليل على ذلك انسحابها من أفغانستان، حيث تخلّت واشنطن عن حلفائها من الأفغان، ليواجهوا مصيرهم تحت رحمة طالبان.
لا تقتصر هذه المهام غير المنتهية على التدخلات فحسب، بل تشمل أيضًا "عملية السلام" بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. لم يؤدِّ إغفال الولايات المتحدة لمسار المفاوضات إلى فشلها في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل إلى حدوث ما هو أسوأ من ذلك، أي منح إسرائيل الغطاء اللازم لترسيخ احتلالها وإنشاء نسختها الخاصة من نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، على أساس نظامَين قانونيَين منفصلَين وغير متساويَين أحدهما يُطبَّق على الفلسطينيين، والآخر على الإسرائيليين. وشكّلت "صفقة القرن" التي أطلقها ترامب - ونقل بموجبها السفارة الأميركية إلى القدس، ومنح مباركة أميركية للقرار الإسرائيلي بضم المدينة، ووضع خطة سلام حرمت الفلسطينيين من حلمهم بالاستقلال – دليلًا إضافيًا للرأي العام العربي على أن الولايات المتحدة لا تأبه بمصالحهم، بل تسعى بشكل مباشر إلى تقويضها.
مع ذلك، تخوض العلاقات الأميركية الإسرائيلية، التي تشكّل الركن الثاني من أركان السياسة الخارجية الثلاث، تغيّرات متسارعة. فالدعم الذي تلقّاه ترامب من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق الذي أمضى فترةً مديدة في الحكم، ساهم في تعميق الانقسام بشأن تأييد إسرائيل في الداخل الأميركي. وما كان في الماضي توافقًا واسعًا بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على دعم إسرائيل بات اليوم قضيةً خلافية في حروب أميركا الثقافية. إضافةً إلى ذلك، حرصت خطة ترامب المرتجَلة للسلام في الشرق الأوسط إلى إرضاء مناصريه الإنجيليين الذين يؤمن بعضهم بأن إعطاء أرض الميعاد إلى الإسرائيليين سيعجّل بدء حقبة نهاية العالم. أما على يسار الطيف السياسي الأميركي، فقد ساهم الاحتلال الإسرائيلي المتواصل ببروز جيل جديد من الأميركيين المشكّكين في صوابية التزام بلادهم الراسخ تجاه إسرائيل. كما أن التيار الوسطي يشهد بدوره تبدّلًا في المواقف. فقد أظهر استطلاع أجرته جامعة ماريلاند في العام 2018 أن 64 في المئة من الأميركيين سيفضّلون تحقيق المساواة الكاملة للفلسطينيين بدلًا من استمرار وجود إسرائيل كدولة يهودية، في حال استحالَ تطبيق حل الدولتين.
أما العامل الثالث الذي ساهم في إعادة تموضع الولايات المتحدة بعيدًا عن العالم العربي فيتمثّل في استقلالها المتزايد في مجال الطاقة. مع أن صافي وارداتها من الطاقة بلغ ذروته في العام 2005، إذ شكّل حوالى 30 في المئة من إجمالي الاستهلاك، سُرعان ما أصبحت مصدّرًا صافيًا للطاقة في العام 2019 بفضل تطوير تقنيات الحفر بالتكسير الهيدروليكي، التي عزّزت قدرتها على استخراج الغاز والنفط. لا تزال الولايات المتحدة تستورد بعض النفط الخام، إلا أن حصة وارداتها من منظمة الأوبك (التي تهيمن عليها دول عربية) انخفضت من 85 في المئة إلى 14 في المئة. إذًا، توشك أميركا على الانعتاق من الحاجة إلى تأمين إمداداتها من نفط الشرق الأوسط وحمايتها. صحيحٌ أن الكثير من حلفائها ما زالوا يعتمدون على النفط، فيما يحاول العالم أن يفطم نفسه عن الوقود الأحفوري، إلا أن الضغوط التي كان يمكن للدول العربية المنتجة للنفط ممارستها على أميركا بدأت تنحسر باطّراد.
نتيجةً لأخطاء الولايات المتحدة وإخفاقاتها والظروف المتغيّرة في أسواق الطاقة، إضافةً إلى خيبة أمل الشعوب والحكومات العربية من السياسات الأميركية، تتزاحم دول أخرى لملء الفراغ الذي خلّفته واشنطن، وفي طليعتها روسيا وتركيا وإيران التي لم تكتفِ بالتدخّل في سورية تحديدًا، بل في أماكن أخرى أيضًا. كذلك، عمدت الإمارات العربية المتحدة والبحرين، والمملكة العربية السعودية ضمنًا، إلى توطيد علاقاتها مع إسرائيل للحدّ من تأثير إيران. أما الصين، فقرّرت استعراض نفوذها اقتصاديًا من خلال ضخّ مبالغ طائلة في المنطقة للأطراف المستعدة لقبولها من دون إبداء أي تحفّظ.
لكن من المخطئ الاعتقاد بأن انحسار النفوذ الأميركي يسهّل عملية إرساء الاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط. صحيحٌ أن الولايات المتحدة لم تحقّق ربما إنجازات تُذكر، لكن من المستبعد أن تتمكّن الأطراف التي تتنافس الآن على النفوذ في المنطقة من تحقيق ما عجزت عنه أميركا، أو حتى أن تحاول مساعدة دول الشرق الأوسط.
تشير التغييرات التي خاضتها الأسواق النفطية، وتلك التي أحدثتها انتفاضات الربيع العربي، والاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن الوسائل القديمة التي لطالما لجأت إليها الدول العربية للحفاظ على السلم الاجتماعي لم تعد فعّالة بعد الآن، وعلى رأسها القبضة الأمنية المشدّدة، والإعانات المالية، ووظائف القطاع العام. فهذه الدول تحاول الصمود متمسّكةً بتكتيكات قمعية وشرسة لا تلقى ترحيبًا في صفوف الشركاء والداعمين الغربيين المحتملين. ونظرًا إلى أن روسيا والصين وتركيا لديها كلها نوازع سلطوية، من المستبعد جدًّا أن يسهم أيٌّ منها في تحقيق الانفتاح السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي الذي تحتاجه الأنظمة العربية.
لكن هذا الانفتاح هو المفتاح الأساسي من أجل تحقيق الاستقرار في العالم العربي. فقادته يحتاجون إلى الاستعانة بأدوات جديدة وشاملة للجميع، من شأنها تحقيق المساواة في المواطنة، وإنشاء أنظمة اقتصادية تستند إلى الجدارة وتَعِدُ بإرساء السلم الاجتماعي وتوفير حياة أفضل لسكان المنطقة. لكن مثل هذا التغيير لا يمكن إحداثه من خلال التموضع مع الصين أو الاعتماد على روسيا أو التحالف مع إسرائيل، بل من خلال تطبيق عملية إصلاح وطنية وجادّة وتدريجية. يبدو واضحًا إذًا أن هذه المهمة ستقع من الآن فصاعدًا، وأكثر من أي وقت مضى، على عاتق الدول العربية نفسها نتيجةً للانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط. ولا بدّ للقادة العرب أن يدركوا أن بقاءهم في الحكم رهنٌ بإجراء الإصلاحات الضرورية، ولا بدّ للشعوب العربية أن تستخدم الوسائل السلمية للدفاع عن حقوقها على نحو أكثر حزمًا.
نقلا عن الإكونوميست في آب 26 /2021.