عندما يسمع اي انسان عاقل مدرك، كلمتي النصر والانتصار يتجه تفكيره سريعا الى المعنى اللغوي القاموسي لهما او المعنى الدارج المتداول. الا أن بوصلة تفكير القارئ أو المستمع سرعان ما تبرح ما أوحى به التلقي التلقائي، لتؤشر، وتثبت المؤشر على المعنى الايدولوجي. حينها تتخاطفه الصور الذهنية الجاهزة التي سبق ورسمتها الثقافة التي ينتمي اليها سواء ثقافة المجتمع ككل او الثقافة العقائدية او السياسية، ثقافة النقل او ثقافة العقل.
لذلك، فعلى الرغم من وضوح المعنى القاموسي الشائع والمعنى المتداول، فإن كلمتي النصر والانتصار تعتبران من بين الكلمات والمفاهيم التائهة في سراب الصحراء ودخان البراكين. في رأي الرازي "إن السبب الاعظم في وقوع الاغلاط حصول اللفظ المشترك"…. "إن الخلل في الفهم لا بد وأن يكون لاحد خمسة اسباب : المجاز، والإضمار، والتخصيص، والاشتراك، واحتمال النقل بالعرف أو الشرع" … "اذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد". وصفوة ما توصل اليه الباحثون في علم المصطلح حسب ما اوردته بثينه الجلاصي، أن المصطلح هو الدال المختص بمجال فكري معين والمُبَيِنِ عن مفهوم خاص بذلك المجال، فإذا تحول عنه تحول المفهوم ضرورة".
أنبأنا القرآن الكريم عن اسباب ومآل الخلاف بين ابني آدم عليه السلام والذي حدث فجر التاريخ البشري، أي قبل خلق اليهود والعرب والانجليز والامريكان والصينيين والرومان ونظرية المؤامرة. اسفر الخلاف عن قتل احد الاخوين لأخيه. فمن منهما كان المنتصر؟ القاتل أم المقتول؟
بعد توقيع صلح الحديبية ادعت قريش انها انتصرت لأنها منعت المسلمين من دخول مكة للطواف حول الكعبة. وفي المقابل يزعم المسلمون أنهم انتصروا رغم اعتراضات عمر بن الخطاب وعلي وغيرهما. فمن هو المنتصر في الحقيقة؟
عقب انتهاء العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦ زعمت اسرائيل انها انتصرت، وعلامة نصرها احتلالها لسيناء. أما الفرنسيون والإنجليز فقد كانت شواهد نصرهم الانزال المظلي واحتلال القناة وقتل المئات من المصريين. في الوقت ذاته ادعى الناصريون ان عبدالناصر هو المنتصر مستندين في زعمهم على أن قرار التأميم اصبح امرا واقعا. وأن الغزاة قد جلوا عن الاراضي المصرية وإن كان قد تم جلائهم بضغوط وتهديدات خارجية. أي أن الغزاة قد فشلوا في تحقيق هدفهم وهو استعادة السيطرة على القناة. بتعدد هويات مدعي النصر، من هو المنتصر؟
اسفرت حرب الساعات الست عام ١٩٦٧ عن تحطيم الجيوش العربية وخسارة هضبة الجولان وسيناء والضفة الغربية. زعم زعماء مصر وسوريا أن اسرائيل خسرت الحرب لانها لم تحقق هدفها الرئيس من الحرب وهو اسقاط النظامين الانقلابيين الحاكمين في مصر وسوريا واستبدالهما، مع أن اسرائيل لم تتبنى هذا الهدف، بل إنها لم تكن تتمنى حدوثه. ادعت اسرائيل من جانبها انها انتصرت لنجاحها في تدمير الجيوش العربية واحتلال اراضي ثلاث دول واعادة فتح مضائق تيران. فمن كان المنتصر؟
بعد المواجهة العسكرية بين حزب الله واسرائيل عام ٢٠٠٦ زعمت اسرائيل أنها انتصرت وحققت اهدافها المتمثلة بتدمير معظم قدرات الحزب العسكرية، واحدثت حالة ردع داخل لبنان متمثلة بالطوائف غير الشيعية المعارضة لوجود حزب الله ونزواته بسبب الخسائر الفادحة التي تعرض لها لبنان.
أما حزب الله فقد برر نصره على اسرائيل بأنه افشل هدفها بتدمير الحزب وقتل قادته. مرة رابعة لا بد من التساؤل عن هوية المنتصر الحقيقي؟
تقاتل نظام الخميني مع نظام صدام حسين لمدة ثمان سنوات. تسببت الحرب بكثير من الدمار والقتلى والديون. وتوقفت التنمية، واثخن الوجدان الشعبي على جانبي الخليج بالالم والحقد والتعطش للانتقام. زعمت ايران أنها انتصرت لأن ثورة الخميني صمدت رغم محاولات القضاء عليها، وأيضا لأن ايران احتفظت بالارض المتنازع عليها التي كان صدام يحاول استعادتها من ايران بعد أن تنازل هو عنها لايران في اتفاقية الجزائر.
أما نظام صدام فقد احتفل بالنصر لان الخميني فشل في اسقاط نظام البعث الصدامي. ونظرا لأن نصر صدام كان مشككا فيه، راح يبحث عن نصر آخر توهم أنه ممكن ومؤكد، فغزا الكويت. تجاهل أن الكويت هي كالشجرة المحرمة، فأثبت أنه لم يتعلم من تجربة جده آدم، وبالتالي أنه ليس من اهل العزم فكان العقاب مريرا. فمن هو المنتصر؟ ايران، العراق، الكويت، امريكا وحلفائها، صناعات الاسلحة؟
بعد غزو الدول المتحالفة للعراق عام ٢٠٠٣ تم احتلال كامل العراق، وقُضي على النظام البعثي الحاكم واعدم وسجن معظم قادته. وعندما قرر الامريكان وشركائهم الانسحاب، بعد تقييد الحكومة العراقية بالمعاهدات والتعويضات والعقوبات، زعم معظم عشاق صدام ان امريكا هُزِمت وان العراق انتصر. اما قادة امريكا فيقولون أن غزوهم للعراق تسبب بزوال صدام ونظامه مما جعل العالم افضلَ واكثرَ أمناً. أي أنهم حققوا هدفهم من الحرب بخسائر طفيفة مقارنة مع خسائر العراق الجسيمة. وعندما قررت امريكا الانسحاب، عبرت الحكومة العراقية عن قلقها لخروج الجنود الامريكيين من اراضيها لأن المحتلُ تحول الى حامٍ وضامن. فمن هو المنتصر الحقيقي: امريكا ام العراق أم ايران، أم دول عربية قزمها التنافس المَرَضي؟
طلبت الحكومة الامريكية عقب احداث الحادي عشر من شهر سبتمبر ٢٠٠١، من قادة طالبان تسليم اسامه بن لادن وقادة تنظيم القاعدة بعد أن ادعى بن لادن وزمرته أنهم كانوا المدبرين للهجمات في مدينة نيويورك.
رفضت طالبان الاستجابة للطلب الامريكي فعاقبتها امريكا وحلفائها بغزو افغانستان واسقاط حكم الطالبان وتشتيتهم ومعهم تنظيم القاعدة في وديان وكهوف افغانستان. بعدها احتفلت امريكا بالنصر لأنها شفت غليل اهالي الضحايا والمتضررين وانتقمت من الذين دبروا ونفذوا الاعتداءت. أما طالبان والقاعدة فاعتبروا انفسهم المنتصرين. فمن هو المنتصر امريكا أم طالبان؟ من تمسك بمبادئه القبلية (حماية المستجير وإن كان مذنبا) أم من تمسك بأمنه ومصالحه؟
طيلة 20 سنة من الاحتلال الامريكي لافغانستان لم تستطع طالبان طرد الامريكان. صحيح أن طالبان تمكنت تدريجيا من استعادة تواجدها في الريف الافغاني بعد مواجهات كر وفر مع الجيش الافغاني الذي أنشأته امريكا وحلفائها. وتفجيرات عدمية على تجمعات العزاء والافراح قتلوا فيها من الافغان الابرياء اضعاف من قتلتهم القوات الامريكية الغازية. ورغم أنهم نادرا ما هاجموا القواعد الامريكية فقد كان الجيش الامريكي يرد ويثخن فيهم. وطارد بن لادن وعشرات من كبار قادة طلبان وقتلهم.
اخيرا، قررت امريكا الانسحاب الطوعي النهائي بعد مفاوضات سرية واتفاقية غير معلوم لا تفاصيلها ولا التزامات ولا دور طالبان بموجبها.
قرار الانسحاب الامريكي اعلنه باراك اوباما قبل عشر سنوات كهدف، وتبناه الرئيس السابق ترامب حيث وقع اتفاقية الجلاء. طيلة السنوات العشر الماضية كان عدد القوات الامريكية والمتحالفة يتناقص تدريجيا ملقية عبء الحفاظ على الامر الواقع على ما سمي بالجيش الافغاني.
لذلك فإن نهاية حرب افغانستان التي نشاهد مجرياتها هذه الايام متفق عليها من قِبَلْ ترامب وقادة طالبان قبل عام وليست حدثا مفاجئا نجم عن سحق قوات طالبان المفاجئ لبقايا القوات الامريكية. وقد اوردت وسائل الاعلام الامريكية أن المخابرات الامريكية قد نبهت طالبان عن نية داعش اجراء تفجيرات بمحيط المطار الذي اصبح تحت سيطرة طالبان، الا أن طالبان فشلت في افشال مخطط داعش. كما أن طالبان لا تريد ان تثبت التهم بوجود تنسيق امني بينها وبين امريكا خشية هروب افراد من ميليشاتها والتحاقهم بداعش.
بناء على ما تقدم، يثور السؤال: من هو المنتصر امريكا ام طالبان؟ المسلمون المسالمون الذين اصبحوا موصىومين بالارهاب أم المتطرفين؟ أم الصين؟ باكستان؟ ايران؟ الهند؟ روسيا؟
اسفرت الحرب العالمية الثانية عن تدمير دول اوروبية مسيحية على ايدي الجيش الالماني. بعد ذلك دمر التحالف المسيحي الرأسمالي، المتحالف مع المسيحي الشيوعي المانيا وايطاليا واليابان. غير ان الدول التي تم تدميرها وخاصة المانيا واليابان وفرنسا نهضت بمساعدة من الدولة التي ساهمت في التدمير وهي امريكا. واصبحت اليابان والمانيا ثاني وثالث اقتصاد عالمي. من هُزِمَ عسكريا نهض وانتصر اقتصاديا وعلميا وتكنلوجيا. لقد كان الهدف الرئيسي للحرب التخلص من شرور النازية والفاشية، وبعد ان زالتا، تحول اعداء الامس الى حلفاء. من هو المنتصر في ظل تنازع الاضداد؟