تسع وثلاثون دورة للأرض حول ظلها وريشته ما زالت تبحث عن مساحة أخيرة لترسم كلمته الأخيرة.
في مدينة تلثمت بالضباب مذ كان الزمان مكانا سائلا، تتوشح الآن لوحاته بالأطر الدهماء حدادا على ميلاد جديد للخيانة، حدادا على ميلاد آخر للغدر.
كان ذلك في صيف عام (1987) م. آنذاك كنت قد بدأت بإقامة علاقة مع صديقة رائعة كان والدي قد عرفني بها، حينها ولد العشق المقدس بيننا: بيني وبين الصحف.
ومنذ أن قرأت خبر إستشهاده والصحف تتعرض لإجتياح لا مثيل له سحابة دورة للأرض حول الشمس من قبل مقالات وبيانات وقصائد ورسوم تبايعه ضميرا لقضيته.
سألته عمن يكون ضمير القضية هذا، فأجابني بعدما نفث سحابة من الدخان: "إنه أبرع رسام للحزن، إذ كان يصوره بريشة آلام الناس وأوجاعهم. إنه أمهر رسام لأحلام شعبه بنوم النوم وموت الموت، إذ كان يرسم أحلامه بريشة عذاباتهم. إنه أكثر الرسامين شجاعة في تصوير الحق بريشة الإيمان العميق بقضيته. لقد كان الأمل بأن تحيا الحياة من جديد في ظل الظلال هو ريشته التي تترجم أحلامه على الورق رسوما عبقرية مشبعة بسخريته اللاذعة من حكمة الحمقى وحماقة الحكماء".
سادتي الأكارم،
مذ رأى النور تحت ظلال (الشجرة) والحرية هي نسمات الهواء العليل الذي يستنشقه أينما سخر من الأعداء، ومن الرعاة المستبدين بقطعانهم، ومن المساومين على بساط الريح، ومن المفرطين بذرات التراب، ومن المتواطئين مع الذين يشربون (العسيس) جهرا وسرا، ومتى قلق على المعتقلين، وعلى المسجونين، وعلى المفقودين.
وكان السجن مهد ميلاد عبقريته في البحث عن حريته. كان يرهف آذانه طوال الليل إلى ذكريات (عين الحلوة) الأليمة وهمسات التشرد والتهجير. كانت الوحدة خليلته التي يمارس معها لذته في إستثارة ريشته!
ولم يكن نشر رسم له يمثل خيمة على شكل بركان في مجلة (الحرية) وليد لقاء عابر مع صاحب روايات: (رجال في الشمس)، و(عالم ليس لنا)، و(أم سعد)، و(ما تبقى لكم). إنما كان وليد إرادة آلهة الحرية التي كان يتصوف في معابدها القائمة هنا وهناك في أقطار حوبائه، والتي كان يرنم لها بلا ملل أو كلل فوق مساحات لوحاته اللامحدودة!
كانت لوحاته فضاء لامتناهيا للحقيقة. كان يشكلها بخطوط من العبقرية وشطحات من الجدلية مبدعا بذلك مسرحا أزليا للحرية!
وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على صدر الموت وفي دهاليز الغيبوبة، كان يا سادتي الأكارم يحاول أن ينقلب على التاريخ المزور، وأن يثور على الثورة المزيفة، وأن يتمرد على التمرد المقنع، وبعدما رسم كلمته الأخيرة وشما فوق مساحات الغدر والخيانة ظل خالدا في الضمائر الحية ضميرا لقضيته!
قد مات جسدا في صيف عام (1987) م لكنه ولد روحا سرمدية آنذاك!
قد أوقفت نبض جنانه رصاصة الغدر والخيانة لكنها لم توقف زفرات الروح التي ترددت في جنباتها آناء الليل وأطراف النهار أنات الحرية مذ أخمدوا حفيف الأشجار اليانعة تحت ظلال (الشجرة).
عفوا أيها الكارياكتير!
لم تعد لك سخرية صادقة ولا عبقرية مجنونة بعد! لم تعد لك ديناميكية جامدة بعد! لم يعد لك تقشف بدون فقر ولا إستعراض بدون تكلف فيما بعد، قد مات حنظلة!
أصابوه في ظهره كعادتهم فتزينت لوحاته بألوان دمائه العطرة! قد نفد صبرهم من إحتجاجاته اللامتناهية؛ فلم تشنف آذانهم بصدح لاآته للطيور الخارجة عن أسرابها، للبحار الجامحة، للكمنجات الصدئة، للخريف العاري من الرياح، للرعود الصامتة، للبروق المعتمة، للقصائد الجوفاء. لم ينتظروا زمانا حتى يدير لنا ظهره فيزيح الستار عن إبتسامته الساخرة بنوم النوم وموت الموت!
ضميرا للقضية نبايعك مجددا يا ناجي العلي!