بعيداً عن إيقاعات ، وصخب ، وهوس ، كأس العالم لكرة القدم في جنوب أفريقيا ، وبعيداً عن دربكات الكرات والأقدام وشعارات التشجيع ورقصاته وعنفه ، في بعض الأوقات.. بعيداً عن هذا كله ، نحن ـ بني البشر ـ تُفرقنا اللغات واللهجات والجهات والغايات ، والأهواء والأمنيات ، لكن لغة واحدة وحيدة شفيفة لطيفة خفيفة ستبقى قادرة على جعلنا كياناً واحداً متماسكاً: هي الموسيقى: هذه اللغة التي تسري فينا مسرى الدم ، ومن دون أن نشعر أحياناً.
لربما ارتبطت الموسيقى بالإنسان الأول بحبل متين: فقد كان يصطاد صيده بالموسيقى: كان يستدرجها لشباكه أو كمائنه ، وجاء في بعض الأساطير البدائية ، أنه عندما خلق آدم من طين ، أراد خالقه أن يبث فيه الروح: لتحركه وتسري فيه ، لكن هذه الروح رفضت الدخول: لأنها سماوية وآدم من تراب ، فأمر الخالق أحد الملائكة بالنفاذ إلى هذا الطين المستكين ، وحين دخل في آدم كان يشدو بأغنية من مقام ذي شجن.. مقام عذّال ، وهو مقام لطيف ، فافتتنت الروح به ، ودخلت الجسد. وحين شاعت الحياة في أعطاف آدم وأطرافه ، وخرج الملك ، بعدما سكت عن الإنشاد ، اندفعت الروح تريد الهروب ، فبادرها آدم ، وأخذ يدندن ويشدو للروح مرة أخرى ، فقررت البقاء في هذا الجسد الترابي.
ومع أنني لا أحب أن نجعل يوماً للأشياء الجملية الأثيرة ، لنحتفي بها ونتذكرها ، كعيد الأم ، ويوم الشعر ، وعيد الحب: فمقتل الجمال وآفته أن تجعل هذه الأشياء على قيد التذكر والنسيان ، لكني يعجبني أن أكون مع الفرنسيين الذين اتخذوا يوماً من أواخر شهر حزيران عيداً ويوماً للموسيقى. فبعد أن تسيَّد البارود وانفجاراته أسماع العالم وأقواله ، أنا مع من يعيد للموسيقى هيبتها وألقها وسحرها ، ونشوتها لهذه الكرة الأرضية المتعبة ، التي باتت تتراكلها أقدام الضجيج ، لعل هذا العالم يستريح من همومه وأوجاعه قليلاً ، ويتخلص من أدرانه وأحزانه ، ويُقبل على الحياة بمرح وفرح.
ومن الطريف أن كلمة موسيقى لها في الأساطير والمعتقدات ما يفسّر تكوينها ووجودها بصوت الماء: فبعد أن التقى موسى ربه في صحراء سيناء ، قال له جبريل: اضرب بعصاك الحجر. فانفلق منه اثنا عشر ينبوعاً ، وصدر عن كل ينبوع منها صوت موسيقي يختلف عن الآخر ، وكانت هذه الأصوات في مجملها هي المقامات الكلاسيكية ، وأمر جبريل آنذاك أن يشرب بنو إسرائيل بالجملة الآمرة التالية: موسى اسقً، ومن هذه الجملة جاءت كلمة موسيقى.
وبخاطري أن أشكر كل من يفكر في روح هذا العالم وشفافيته ، وأشكر كل من يحاول إخراجنا وتخليصنا من اندغامنا وانغماسنا بالماديات والترهات ، فبالموسيقى ربما نرتفع عن تراب الأرض ، ونسمو طيوراً روحانية ، لنلج رحم الغيمات ، ونتزاوج مع أجنة المطر والرعد. فالضجيج والنشاز صارا يملآن كرة الأرض ، ويتخمانها حتى ترقوتها ، فسلام على أوتارنا التي ما تزال قادرة على توليد الأنغام الصادقة.. وسط هذه المعامع،
(الدستور)