نحنُ لا نحيا لغدنا بقدر ما يجب أن نحيا ليومنا، ولا يجب أن نحيا ليومنا وكأن حياة الغد غير آتية.
والحقيقة أنّ كليهما مرتبط ببعضهما البعض، فلا يمكن فصل حياة اليوم عن حياة الغد. ومعادلة الحياة الناجعة والناجحة هي الموازنة بين الحياتين، فلا نعيشَ حياة اليوم على حساب حياة الغد ولا ننتظر حياة الغد على حسب حياة اليوم. فاليوم نحن نحياه حياة أرضية بنكهة سماوية، وغداً سنحيا حياة سماوية بالكامل متحررين من كل قيود الجسد، ويجدر بنا أن نعيش في الحياتين بكل ما في الكلمة من معنى، فلا نخسر اليوم ولا نخسر يوم غد.
والحديث عن يوم غد هو الحديث عن الأبدية مع الله، «فطوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله» أي طوبى لمن له نصيب أن يشترك في خيرات وبركات ونعم السماء التي أعدها الله للذين يحبونه، «فما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه». وهذه الحياة الأبدية مرهونة بطبيعة ونوعية الحياة التي نحياها اليوم، فمن يظن أنه يحيا اليوم بغير مبالاة وغير مسؤولية واستهتار، ربما يشبع رغباته وشهواته وغروره، ولكنَّه لن يختبر نوعية الحياة الأرضية التي يغمُرها الإيمان والرجاء والمحبة، وبالتالي سوف لن يقدر أن يتذوق حياة السماء الآتية.
حياتنا اليوم إذا تحدد حياة يوم غد، ويجب أن تكون مغلَّفَة بالمحبة الإلهية الصادقة النابعة من كل القلب والنفس والفكر والقدرة. وهذه المحبة هي التي تعطي من غير حساب، وتبذل ذاتها في سبيل سعادة الآخرين وإدخال البهجة إلى نفوسهم حتى وإن وقدمت ذاتها على مذابح المحبة الإلهية. فبدون اختبار هذه المحبة الحقيقية النابعة من أعماق الله لن نقدر أن نرى الله ولن نقدر أن ندخل الحياة الأبدية معه.
وحياة المحبة هذه تتجسَّدُ بإظهار الرحمة لجميع الناس من غير تمييز في العرق أو اللون أو الدين أو الجنس، هي الرحمة الإنسانية التي تشعر مع آلام الآخرين ومع انتقاص كرامتهم وحقوقهم وحريتهم، هي الرحمة التي تخرج من عقالها وتتحدى كل الحواجز والحدود البشرية المقيّدة التي يضعها بنو البشر والتي تقود إلى التفرقة العنصرية والطبقية والإثنية والعرقية أو التمييز بين طبقة رجال الدين وغيرهم من العلمانيين، إذ ليس إنسان أفضل من غيره، لأننا كلنا نسعى للارتقاء بالإنسان والإنسانية وفي كافة مجالات الحياة، كلنا في طريق الدعوة للحرية المسؤولية والمنطق والفكر النير والمستنير، وكما قال ابن رشد الذي عندما أحرقت كتبه سقطت الأندلس وعندما وصلت أفكاره أوروبا بدأت نهضتها، فهو القائل: «الله لا يمكن أن يعطينا عقولا، ثم يعطينا شرائع مخالفه لها».
إذا دعونا نعيش حياتنا اليوم بحبنا لها ومحبتنا للجميع، نعشق جمالها وموسيقاها وفنها وفنونها، نتغزّل بتفاصيلها، ونصنع الرحمة من غير تمييز حيثما لزم، فمن يَرحم يُرحم، ومن يُعطي يُعطى، ومن يَغفر يُغفر له.
(الرأي)