يطالعنا بين حين وآخر في الصحف أو المواقع الإخبارية مقال أو تظلّم أو تساؤل، يصف أحد جوانب القصور في ممارسات تصدر عن مؤسسة ما. ونلاحظ أن بعض المسؤولين يلتقط المسألة، ويتقبلها هدية، ويشكر المنتقِد والموقع الإعلامي، ويبادر إلى التصويب والإصلاح، وتلك شِيَم الكبار.
بينما نجد مسؤولين آخرين ترتعد فرائصهم من أي نقد، فيجلبون بخيلهم ورجلهم، ويذرعون أقطار الأرض، وهم مرعوبون مهتزون يتنادون ويتصايحون لدفع هذا الخطر الداهم.
الانطباع الأوليّ الذي يتشكّل لدى المتابع الحياديّ هو ضعف هذه الفئة من المسؤولين، وأن علوّ صوتهم يدلّ على تداني أدائهم، وفزعهم يثبت اهتزاز ثقتهم بأنفسهم، والجلَبة التي يثوّرونها تعزّز اتهامهم وإدانتهم، فالأمر لا يحتاج إلى ردة الفعل الهائلة هذه، وكان الأولى بهم اللجوء إلى الردّ الموضوعيّ بهدوء، وكشف الحقيقة مبرّأة من كل سوء.
لكنهم يعلمون، ونحن نعلم أنهم يعلمون، وهم يعلمون أننا نعلم بأنهم غارقون في الخطأ والخطايا من أخمص أقدامهم حتى أعالي الذقون. يردّون على ملاحظات المقال ردودا باهتة ساذجة بعيدة كل البعد عن المضمون، ويفتعلون معارك جانبية لا علاقة لها بأصل القضية، ويذكّروننا بالحكاية التراثية الشعبية الطريفة حول (ضياع المناجل).
ولنزقهم وفرط توترهم تراهم سرعان ما يلوّحون بملاحقة الكاتب قضائياً، يزيّن لهم ظنهم أن ذلك كافٍ لإخراس الألسنة وتكسير الأقلام، ويتوقعون – خاب توقعهم – بأن الرُّكَب ستصطك، والمشانق ستعلق.
وتراهم وأتباعهم يسارعون إلى اتهام المنتقدين بإساءة سمعة المؤسسات الوطنية الناجحة، وأنهم يمنعون هذه المؤسسات من استقطاب الأموال الخارجية التي ستحلّ مشاكلنا الاقتصادية، ويتظاهرون بأنهم وحدهم الأوصياء على سمعة الوطن، بينما المنتقِدون الساعون إلى تنقية مؤسساتنا من أكدارهم وأقذارهم يمثلون في أنظارهم أعداءً للنجاح، ومعاول هدم لمؤسسات الوطن.
إلى أي مسؤول من هذا الشكل نتوجه جهرا وفي رابعة النهار بالقول:
- يا صاحب السمعة، أنت آخر من يحقّ له التشدّق بالحفاظ على السمعة.
لو كنت حريصا على سمعة مؤسستك، لاستقمت أنت أولا في أسلوب إدارتك، وفي قراراتك، وفي تعاملك، وفي التزامك العادل بقوانين وأنظمة وتعليمات مؤسستك، وفي تعييناتك، وترقياتك، وعقوباتك، وعلاقاتك، وتصرفاتك ..... إلخ .
- يا صاحب السمعة، أنت آخر من يُصدَّق ادعاؤُه بالحرص على السمعة.
لو كنت حريصا على سمعة مؤسستك لأحسنت اختيار المسؤولين في مديرياتك ومراكزك ووحداتك، وعمداء كلياتك ورؤساء أقسامك، واتخذتهم من الصالحين الصادقين الأقوياء الأكفياء الأمينين، وابتعدتَ عمّن تسربلوا بمَشابه الآية الثالثة من المائدة، ولتجنّبتَ تماما تلقّف من تلفظهم السجون من الأدنياء الخبثاء الماكرين المارقين المزيفين، لتلمّهم على شعثهم، وتجعلهم واجهة مؤسستك، تُعلي شأنهم، وتُطلق أيديهم الملوّثة ليمثّلوك، ويتحدثوا باسمك، ويهددوا بسيفك، فتجتمع التعاسة وخيبة الرجاء معا في صعيد واحد.
- يا صاحب السمعة، أنت آخر من يقنعنا بحديثه عن السمعة.
لو كنت حريصا على سمعة مؤسستك لما استسهلتَ تلفيق التُهم للمخلصين المنتمين الشرفاء النظيفين، الذين لا ذنب لهم إلا المطالبة بكل أدب ببعض حقوقهم، نعم المطالبة ببعض حقوقهم المشروعة العادلة الواضحة، فاهتزتْ بذلك قوائم كرسيّك البائسة، وتلفّعتَ بأردية المؤسسية الباهتة، فامرتَ مَن دونك بنسج خيوط الظلم العنكبوتية الواهية، وقُدتَ بعض اللجان من آذانها لتمهّد لمُرادك، واستسهلتَ توجيه العقوبات الجائرة لمن تعرف جيدا أنهم أنقى وأنظف وأشرف ممّن اتهمهم، فحاولتَ تشويه سمعتهم النقية، وجعلتهم يزهدون في وظائفهم، ويعفّون عن موارد رزقهم، وجعلتَ الدنيا تشوه في وجوههم، والأرضَ برحبها لا تتسع لك ولهم.
- يا صاحب السمعة، أنت أظرف وأعدل وألطف مَن يتحدث عن السمعة !!!
لأنك من شدة اهتمامك بسمعة مؤسستك، ألجأتَ العشرات من رعيتك إلى الجهات الرقابية والوزارات والمؤسسات والهيئات، وإلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها.
رعاياك المظلومون أيها الراعي الأريب يجأرون بالشكوى، ويستنفدون جهودهم وأوقاتهم وأعصابهم وأموالهم لرفع ظلمك عنهم، وأنت تتلذذ بساديّتك العجيبة، وتطرب لسماع اسم مؤسستك المُشتكى عليها في الردهات والدواوين، وفي هذا أكبر دليل على حرصك الحكيم على سمعة مؤسستك.
- يا صاحب السمعة، لقد أضحكتنا في حديثك عن السمعة.
أُحيلك إلى قوله تعالى: ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .)
وأحيلك إلى بلاغة أبي الأسود الدؤلي :
يا أيها الرجل المعـلم غيره هلّا لنفسك كان ذا التعلــيم !
لا تنهَ عن خلق وتأتيَ مثله عار عليك إذا فعلت عظيم !
وأحيلك إلى حكمة الشافعي:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى وحظك موفور، وعِرضك صيّن
لسانك لا تذكــر به عورة امرئ فكلك عــورات ، وللنـاس ألسـن
وعينــك إنْ أبدتْ إلــيك معــايبا لقوم، فقل: يا عين للنــاس أعـين
وأخيرا، أحيلك إلى نفسك، وأسألك:
هل تقرأ القرآن الكريم؟ هل تتذوق الشعر وتستلهم قيم العرب فيه؟ هل تواجه نفسك؟
قف أمام المرآة رجلا وقورا عاقلا، واهمس لها وحدها لعلك تجرؤ على قول الحقيقة، وما أظنك فاعلا يا صاحب السمعة العريقة !!