اتفق فقهاء العلوم السياسية على أن قوة الدولة التقليدية تكمن في الجغرافيا , الموارد الطبيعية , القوة العسكرية , وطبيعة النظام في الدولة , وتوحيد السكان أو تماسكهم .
ومن بديهيات علم السياسة أن القوة السياسية للدولة متغيرة وليست ثابتة , فذلك يؤكد لنا على أن القوة السياسية لا تكمن في كمية الموارد في الدولة , بل في طريقة استغلال تلك الموارد , ومدى تأثير مكتسبات الموارد على الداخل الوطني والمستوى الدولي , مع مدى تكييف تلك الموارد التي تتوفر مع أي متغيّر في البيئة السياسية الداخلية والخارجية .
فالقوة السياسية للدولة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي , تكمن في قدرة هذه الدولة على استغلال مواردها الداخلية , الطبيعية والصناعية , الناعمة والخشنة , مادية أو معنوية , حسب نوع وطبيعة هذه الموارد .
خلاصة القوة في موارد الدولة تكمن في ترجمة وتحويل تلك الموارد المتوفرة لديها إلى طاقة تأثير فعّال، وتنظيم ذلك التأثير على الداخل الوطني و الخارج الدولي .
ففي الفترة الممتدة من القرن السادس عشر الى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي , ومن خلال علماء السياسة التي تتلمذوا على يد علماء المدارس السياسية التي نشأت في أوروبا خلال هذه الفترة , يقرون أن القوة السياسية للدول اختلفت من المنظور الكلاسيكي لقوة الدولة من خلال قدرتها العسكرية , وعدد سكانها , اذ أن عدد السكان الكبير , يعني ضرائب أكبر , وبالتالي قدرات مالية للدولة بشكل أكبر , بالإضافة لقدرة السكان على تعويض القوى البشرية العاملة في القوات المسلحة لتلك البلدان , مع الاقرار بأن الأهمية ( الجيوسياسية) للدولة لم تتراجع كثيرا .
تحويل القوة ( بمعنى ترجمة الموارد الى تأثير فعّال ) كانت ولا تزال المعضلة الأكبر لأغلب الدول الكبيرة والصغيرة منها , كما قال - سيسل كراب - في محاولته لتحليل دخول الحرب العالمية الثانية من طرف الولايات المتحدة الأمريكي , إذ يقول : " كانت الولايات المتحدة أقوى بلد في العالم في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، ولكننا بسبب انشغالنا بأمورنا الداخلية في عشرينيات القرن العشرين، وفشلنا الاقتصادي في ثلاثينياته، عجزنا عن تنظيم مواردنا على نحو فعال على المسرح الدولي، ولذلك دفعنا الثمن في الحرب العالمية الثانية".
من هنا يتضح أن الجزء الأكبر من أسباب تفوق الدول السياسي على الساحة الدولية , لا يكمن في كثرة الموارد , بقدر كمونه في في استغلال هذه الموارد وتحويلها الى قدرة تأثير فعّال في الداخل القومي , وعلى الساحة الدولية .
وفي النتيجة , نستطيع أن نرى أن القوة السياسية في القرن الواحد والعشرين , لا تكمن في كم الموارد بقدر كمونها في كيفية استغلال هذه الموارد وتحويلة الى قوة تأثير فعالة من خلال توزيع هذه القوة ما بين الداخل القومي والخارج الدولي , على قاعدة فهم عميق لموازين القوة وطريقة معالجتها بشكل صحيح , حسب ثوابت الزمان والمكان والبيئة والهدف الاستراتيجي النهائي لتلك الدولة .
* محميتهم وأوليات الدولة الأردنية :
أولويات الدولة الأردنية في ظل تنامي عجز الموازنة واستمرار التحديات الاقتصادية تتمحور حول توفير التدفقات المالية الآمنة للخزينة حتى تتمكن من توفير المخصصات المالية الكافية والكاملة للوفاء بالتزاماتها المالية الداخلية و الخارجية ، و خدمة الدين الخارجي والذي يبلغ ما يقارب الـ120 مليون دينار شهريا تقريبا وقد قفز هذا الرقم خلال جائحة كورونا ، وتوفير ما يقارب الـ90 مليون دينار شهريا لتمويل نفقات الدولة المختلفة والحفاظ على استدامة عمل الوزارات والمؤسسات الرسمية المختلفة وبشكل بسيط جدا الدولة تحتاج إلى ما يقارب الـ580 مليون دينار شهريا لتلبية احتياجاتها والتزاماتها المختلفة.
هذا التهديد الاستراتيجي للدولة , وهي التدفقات المالية والحفاظ عليها , هو التحدي الأبرز الذي تواجهه بشكل يومي , والدولة الأردنية اليوم في مرحلة اشتباك وجودي مالي , في ظل شلل القدرة للدولة الأردنية على الانتاج , و شللها على مستوى التحصيل الضريبي حسب النهج الاقتصادي الذي دخلته قبل عقدين من الزمن .
ومؤشرات الأداء الاقتصادي كلها تجتمع في خانة عدم الجدوى الاقتصادية للنهج الأردني الاقتصادي , الذي لا زال عليّة القوم مصرين عليه حتى آخر دفقة أمل في مخيلتهم .
من هنا , بدأت بارقة أمل تلوح بالأفق , من خلال الضغط الشعبي بمختلف مستوياته وتكويناته , على الدولة الأردنية , بضرورة ايجاد مخرج لهذه الحالة المأساوية التي تعيشها الدولة الأردنية على المستوى المالي , مما أثر سلبا على الشعب من حيث مستوى المعيشة , والدخل العام , وتمحور الضغط الشعبي حول ضرورة استغلال ثرواتنا من باطن ارضنا , بعدما باءت محاولات الضغط الشعبي لإرجاع الاقتصاد الأردني للاقتصاد المختلط .
الدولة بدورها بررت الفشل وعزته الى مجموعة معيقات دولية ومحلية , من ابرزها سياسة ترامب التي صادمت الثوابت الأردنية في القضية الفلسطينية والقدس , ومحاولة ترامب لعزل الأردن اقتصاديا وسياسيا بالتعاون مع مجموعة دول في المنطقة , في سبيل التنازل ولو نسبيا عن هذه الثوابت .
وعزت الامر كذلك الى توترات المنطقة واشتعالها بحروب دامية , مما أثر بشكل مباشر على الصادرات الاردنية أو حتى الايدي العاملة الاردنية في تبك الدول .
وعزتها بشكل أكبر الى ضغط اللجوء على الدولة الاردنية , وحقيقة ان اللجوء حصل بمباركة الدولة الاردنية نفسها , وفتح حدودها بشكل واسع جدا , من باب المسؤولية الاردنية تجاه الأشقاء , كما تقول الدعاية الاعلامية الأردنية , على الرغم من أن الاردن لم توقع على معاهدة اللجوء الأممية حتى اليوم .
هذه العوامل الرئيسة اجتمعت على خنق المواطن الأردني قبل الدولة الأردنية , وتزامن الامر مع دخول الأردن بهيكلة اقتصادية جديدة , انطلقت فيها منظومة إعلامية الأردنية تصور للمواطن الأردني أن الهيكلة الجديدة الاقتصادية ستدخله جنات عدن , وستجعله مواطن سويسري من الطراز الرفيع.
من افرازات الهيكلة الاقتصادية الأردنية المباشرة , مجموعة أصحاب وظائف عليا, ومصالح خاصة ضمن مؤسسات ضخمة , حازوا على جميع الامتيازات التي يمكن أن يتخيلها المرء الأردني , وحازوا على تفردهم بالقرار , وصل بهم الأمر في مرات عدة الى لي ذراع الدولة نفسها , تحت تهديدات مبطنة خارجية , تتمثل بقدرتهم على التأثير بمصادر المنح والمساعدات الخارجية .
هؤلاء المتفردون بهذه الميزات العالية جدا , والتي لا تتوفر في منظومة الدول الخليجية نفسها , اقتطعوا أجزاء من الأردن , واقتطعوا جزء أكبر من دخل المواطن , بحجة انشاء مساحات ترفيهية على الأرض الأردنية , وفوق الثروات الأردنية , ليجدوا متسع لهم للترفيه , وللجلوس على كرسي سيادي أردني , يقوم بتوجيه القرارات كيفما أرادوا وكيفما توافق مع مصالحهم الشخصية , والتي لا تعرف مستوى معيشة المواطن الأردني الحقيقي .
هؤلاء يقاتلون في سبيل جزء من أرض فيها ثروات اردنية , كفيلة بسد الجزء الأكبر من الحاجات الأردنية المالية , ان تم حسن استغلالها وتحويلها لقوة فعالة التأثير على الدخل القومي , ويضربون بعرض الحائط , كل حاجات الأردن المالية لتبقى متماسكة سياديا وقوميا .
هؤلاء لا يعرفون من الأردن , إلا منصب وكرسي , وامتيازات لا يجدونها في لندن نفسها , وان تم تهديد أي امتياز لهم , فهم على استعداد لحرق الأرض وما عليها , في سبيل بقائهم برفاهية مطلقة .
في النهاية نحاسنا ملكنا , ومحمياتهم ليست لنا