آخرهم تعلق بعمود الكهرباء و قبله فتاةٌ تسلقت مبنىً فارغاً و أنزلهما الدفاع المدني. و قبلهم من التصق بسور الجسر الشهير حتى اقتنع بالعدول. و منهم من لم ينتظر و ألقى في سَوْرَةِ القنوط من رحمة اللهَ الجسد و النفس للموت بالرصاصة أو السم أو القفز من عُلْ. تعددت الأسباب و الموتُ واحدُ و كُلٌ له ساعةٌ مُختارةٌ والدين يضعُ الفرقَ بين ساعةِ الله واختيار البشر. ساعةُ الله طاعةٌ و ساعةُ البشرِ بها شك المعصية، والله أعلم.
المنتحرون و أولئك المقبلين على الانتحار لكن بتردد هم حالةٌ اجتماعيةٌ بائسةٌ تفرض نفسها بالموت أو التهديد به بين الفينة و الأخرى ولا يوجد لها حل واضحٌ. أرواحٌ يائسةٌ بلا مُعين. يتملك نفوسهم وَهْمٌ أو حقيقةٌ يعذبهمٌ و يلغي رجاحة العقل فيأخذ الإنسان روحه بيده بدون تردد. عازمٌ على هربٍ سريعٍ من الحياة لِذنبٍ أو خشيةٍ من ملامةٍ أو لمرضٍ لا يرجى شفاؤه، فينتحر بلا مقدمات و بتصميم. الله وحده يعلم شؤونهم التي قادت لهذا المسار الكارثي وهو وحده يعلم بالمصير الأبدي لمن يأخذ قرار موته بيده. لكن الأهل و الأصدقاء سيعيشون عذاب هذا القرار لأنهم لم يروا القادم و لم يمنعوه فإذا به يخذل نفسه و يخذلهم.
تقول منظمة الصحة العالمية أن قرابة 700 ألف إنسان ينتحرون سنويا. و أن 79 بالمائة من المنتحرين يعيشون بدول متوسطة ومنخفضة الدخل. المنظمة ترمي باللائمة ربما على الفقر و الأسباب الاجتماعية و الصحية لكن أسباب الانتحار متعددة بلا شك و هو على أي حال هروبٌ من مواجهة. وكالة أنباء "روسيا اليوم" عرضت تقريرا بشهر يناير 2021 عن الانتحار في الأردن و أوردت أعداد المنتحرين. 153 في عام 2020 وهو الأعلى لليوم. بحثت عن أرقام إحصائية رسمية فلم أوفق. التقرير يتكلم عن أسباب الانتحار من فقر و فشل و مرض.
أما المترددون في الانتحار فلا أرقام عنهم و ربما يدرجون تحت بند المخالفات الجرمية. لكنهم أفلحوا بترددهم ربما من حيث لا ينوون. هم بين اليأس والأمل بمنطقة مراوحةٍ فكريةٍ هلاميةٍ رماديةٍ تأخذهم للهاوية و تعيدهم لما يرجون فيه أو منه مُعيناً غيرَ واثقين من عزمهم المتردد على الانتحار و لربما بترددهم هذا أرادوا إثارةً للجلبة تقود لاهتمام أحدٍ ما لتغيير حالهم. وهم بالنتيجة اختلقوا ألماً و انشغالاً مع أهلهم و مع الجهات المنقذة بشكلٍ رئيسي، و أربكوا المواطنين العابرين. ولو كانوا ضحايا ظلمٍ أو وهمٍ فقد أذنبوا بحق النفس البشرية المهداة لهم من الله و التي لا يجوز التفريط بها هرباً من الملمات، وأذنبوا كذلك بحق من سعى يثنيهم عن الانتحار من أطقمُ أمنٍ و إسعافٍ تُهْدَرُ طاقتهم النفسية والجسدية في غير مكانها وإن كان عملهم هو الإنقاذ.
والنفس البشرية عجيبةٌ في رد فعلها على المتردد عن رمي النفس للتهلكة. الأهل تصدمهم الحادثة فيلومون و يرجون. و من المتحلقين أثناء الحدث منهم من يدعو بالنجاة و الرشاد، و من يدعو سَفَهاً بالهلاك! من يجتهد بالدعاء والنداء ليمنعه و من يتمنى سقوطه كي يلتقط لحظة السقوط صورةً لينشرها فخراً. الخيرُ والشرُ هناكَ في الأسفلِ بين الناس وفي الأعلى مع المتردد حيث القلب يخفق و العينان جاحظتان والأطراف ترجف و الفكر ينتقل بين خوفٍ و رجاءٍ و اللسان يقول بما يجوز ولا يجوز. وحدها النفس الأمارة بالخير و الشر تقرر المرور نحو الفناء أو البقاء. ثم تمتد ذراعٌ رحيمة لتنقذ و تحنو.
لو كان عندنا مثلما بروايات الخيال العلمي ما يتنبأُ مسبقاً بحدوث الشر لسبقه الخير. لكنه ليس بالاستطاعة في هذا الزمان. و لكل من يفكر بالانتحار، تردد ما شئت و تردد طويلاً و قاوم و انتظر سواعد الخير و الحياة فحياتك تستحق الإنتظار. و للمسؤولين و الجمعيات الأهلية و الأساتذة و الأطباء الذين يهتمون بهذا الشأن الإنساني: كثيرون يمرون بأزمات الحياة التي تدفعهم دفعاً للخلاص بالموت السريع. رقمُ هاتفٍ يسهل حفظه و يُعلنُ عنه و يديرهُ مختصون بأنفس و أصوات رحيمة قد تكون كل ما يطلبه المتردد للنصيحةِ و الخلاص من الفكرة المدمرة و الانتحار. و الله المستعان.