كل حكومات الدول المتحضرة تدعم إعلامها وتقويه وتسانده، بصفته الجيش الثاني للدولة، وتقف إلى جانبه في أزماته لأنه ذخرا لها وسندا للدولة والوطن في كل المعارك. نحن في الأردن عكس هذا الواقع، فالحكومات تجتهد دائما في محاصرة المؤسسات الإعلامية بشتى الطرق سواء بالتضييق على حرية الرأي أو بفرض الرسوم، أو بسن تشريعات تؤثر سلبا على الواقع الإعلامي، وتتعامل مع هذه المؤسسات كشركات ربحية، وتجتهد دائما في مضايقة هذه المؤسسات وبذات الوقت، تطلب منها الوقوف إلى جانبها في معاركها، إذن هي " قسمة ضيزى".
الإعلام الأردني المقروء والالكتروني والمسموع والمرئي أثبت دائما في معظمه أنه إعلام دولة، رغم أن كثير من الحكومات تريده إعلام حكومة. الصحفيون والإعلاميون الأردنيون في معظمهم أيضا وطنيون ولاؤهم لدولتهم فقط، ولم يأكلوا على حساب دولتهم، ولم يساوموا يوما على حساب المصالح الوطنية، في الوقت الذي تدير لهم الحكومات ظهرها دائما في أزماتهم، والأزمة المالية التي تعصف بالمؤسسات الصحفية والإعلامية منذ سنوات دليل على ذلك، اللهم سوى القليل الذي وصل هذه المؤسسات والذي لا يغني عن أزمة مالية شرسة تضرب هذه المؤسسات وتهدد وجودها، وتعصف بمستقبل أبنائها...
خذ مثلا الاتفاقيات التي وقعت مع صحيفتي الرأي والدستور تحت مسمى شراء الإعلانات المسبق، بمعنى أن تقوم وزارة المالية بدفع ثمن إعلانات الحكومة للصحيفة عن عدة سنوات مسبقا، والشرط كان أن تقوم الصحيفة بتحويل دخلها من هذه الإعلانات إلى الوزارة، مع فترة سماح متواضعة، إضافة أن هذه الاتفاقية فرضت على الصحيفة أن تعلن للحكومة سنة بالمجان. في الرأي مثلا، تم الاتفاق مع الحكومة على دفع قيمة إعلانات مسبقة عن سنوات عديدة، بقيمة أربعة ملايين، وعندما تم تحويل المبلغ، قامت المالية من خلال دائرة ضريبة الدخل بخصم مليوني ومئة ألف دينار، بحجة تراكم ضريبة المبيعات على المؤسسة، وهذا يعني أن المبلغ لم يبق منه سوى مليون وتسعمئة ألف دينار، فعلى ماذا يصرف هذا المبلغ المتواضع أمام أزمة معقدة تعصف بالمؤسسة، كذلك الحال بالنسبة للدستور.
إن التعامل الحكومي مع المؤسسات الصحفية في الأردن لا يرتقي إلى أهمية دور هذه المؤسسات، لان كثيرا من المؤسسات الرسمية تجهل معنى القيمة الحقيقية للإعلام المستقر.
وبالحديث عن هموم الصحف الالكترونية التي أثبتت في معظمها أنها تمارس صحافة وإعلام بأرقى درجات المسؤولية، يمارس عليها عملية ابتزاز متنوعة، أهمها في ثمن الإعلانات؛ حيث تخضع هذه المواقع للابتزاز حتى ترضى بسعر قليل لا يتناسب مع أهميتها، مع الإشارة إلى أن الحكومة تقاطع بإعلاناتها هذه المواقع. وتحت ضغط الأزمات المالية التي تعاني منها المؤسسات الإعلامية بشكل عام، تضطر إدارات هذه المواقع بالقبول بهذه القسمة المريرة. واليوم تزيد الحكومة في الضغط؛ إذ تشرع قانونا يلزم الصحف الالكترونية بدفع مبالغ كبيرة عند تجديد الرخصة سنويا.
لا أعرف أي عقل يفكر بهذه الطريقة، ففي الوقت الذي تقوم الدول بدعم إعلامها ووسائل الاتصال فيها، نقوم نحن بالتضييق عليها ومحاصرتها. وأمام هذا الواقع وهذه العلاقة غير العادلة بين الحكومة والإعلام، علينا أن نقرر هل نريد إعلاما أم لا نريد، والذي يفرض هذا السؤال بالطبع هو المواقف الحكومية السلبية تجاه هذا القطاع. أنا أعرف تماما أن مسؤولين كثر في مفاصل الدولة والحكومات منبهرون بوسائل التواصل الاجتماعي، ويتحدثون عن زمن الإعلام التقليدي المنتهي وهذه خطيئة في التفكير وقصر في النظر، لأن الصحف الورقية والالكترونية هي التي تحمل رسالة الدولة إلى الناس، وليس ذلك ما يسمى "بالناشط" على الفيسبوك أو على تويتر ذات المزاج المتقلب، يوم يكون في أقصى اليمين، وآخر في أقصى اليسار. لقد تحلل كثير من هؤلاء "والدولة والحكومة تشتكيان" من كل وسائل الأخلاق، وانطلقوا إلى استباحة المجتمع واغتيال الشخصيات وبث الإشاعات، فالكذب والإثارة والتهويل هي وسائل الكثير من هؤلاء، التي تقوم على خداع الناس وزعزعة استقرار المجتمع ودب الفوضى فيه والتنمر على قيمه.
نقول لأصحاب القرار، إذا أردتم إعلاما قويا يدافع عن الوطن والدولة، يجب دعم الإعلام الوطني بكل أنواعه، وبكل الطرق المتاحة، ويجب دعم العاملين به من صحفيين وغيرهم، حتى يزاولوا مهمتهم على خير وجه، كما يجب رفع الوصاية عن هذا الإعلام من مختلف الجهات والدوائر، حتى يستطيع أن يكون إعلاما وطنيا وجيشا ثان يحمل المصالح العليا للوطن والدولة، ويكون عامل بناء للمجتمع، وليس إعلام تطبيل وتزمير فاقد لثقة الناس كما يريده البعض، وأن يكون حلقة الوصل الطبيعية بين المواطن والمسؤول في اعلى درجات المسؤولية.