التغيّـر في فلسفة الوظيفة العامة
عبد الكريم محسن ابو دلو
20-08-2021 12:33 AM
تقـوم الوظيفة العامة على إسناد مجموعة من المهام والواجبات للموظف للقيام بها بمقتضى التشريعات النافذة. وتتحدد فلسفة الوظيفة العامة بالمفهوم التقليدي السائد بتقديم الخدمة للمواطن والمجتمع تحكمها القيم الدينية والوطنية والقومية للحضارة العربية والإنسانية.
إن هذه الفلسفة التقليدية للوظيفة العامة، تصلح في ظل الظروف القديمة التي كانت تحكم المجتمع وتسود العالم، ولكن فضاء العالم المتغير، والتطورات الكبيرة في مختلف مناحي الحياة، وسيطرة التكنولوجيا والمعرفة الرقمية على العقل الإنساني، واحتلال مفاهيم جديدة عابرة للحدود لسوق الإدارات العامة والقطاعات الخاصة، ألقــى ذلك كله بثقله وارتداداته على منظومة الدولة والهدف من الإدارة العامة فيها، باعتبار الإدارة هي شريان الدولة، والوظيفة هي روح إدارتها العامة.
بالتالي، إن الحديث عن مفهوم الخدمة المجرد كهدف مؤطر لفلسفة الوظيفة أصبـح في سياق التاريخ؛ ما يحتم على الحكومات بإداراتها العامة، أن تبني أهدافها وغاياتها من الوظيفة وفق أفـق فلسفية جديدة، تتجاوب بمكنوناتها التنظيمية ومكوناتها الموضوعية، مع المتغيرات العالمية والوطنية؛ لأن بقاء الحديث عن الهدف التقليدي للوظيفة والمتجسم بالخدمة، يعبر عن عجز الإدارة العامة أو عدم قدرتها على مجاراة المستقبل.
فهل يعقل بأن تبقى دول عمرها مئات السنين، وإدارات مضى على تأسيسها عقود وأكثر، تحصر أهدافها وفلسفاتها الوجودية في تقديم الخدمة، بينما يقضي المنطق العام أنه تم تغزير هذا الهدف في كيان الإدارة العامة وتنفذه بواسطة موظفيها بشكل طبيعي يسير لا يواجه أي اشكالية. ولكن يكون التحدي الجديد الذي يواجه هذه الإدارات بضوء التنافسية المفاهيمية في مناهج تقديم الخدمة وأساليبها ونوعية الخدمة المقدمة والوقت المستغرق بذلك ومدى رضى المتلقين من جهة. ومن جهة أخرى، وهذا الأهم، مدى قدرة الإدارات على اجتراح خدمات جديدة تغير من شكل الوظيفة العامة، ودورها بتحفيز الموظفين على الابداع والتميز بشكل يخلصهم من التكلسات المقيدة لشغفهم التجديدي في أعمالهم الوظيفية، للوصول إلى مفهوم مبتكر للوظيفة يهدف إلى تبسيط حياة الناس وإسعادهم، من خلال خلق أدوات الرفاهية في المجتمعات الوطنية والعالمية.
وعليه، لا تكون معايير التمايز والتنافس بين وزارة وأخرى بمدى قدرة هذه الوزارة أو تلك على تقديم الخدمات للمواطنين وفق أهداف الوزارة المبنية على طبيعة مهامها وواجباتها، بل يـُبنى ذلك التمايز والتنافس على مدى قدرة الوزارة على الابتكار والإبداع بالقيام بمهامها وواجباتها، والتي من شأنها، بالمحصلة، أن تقدم الرفاهية للمواطن والمجتمع، من خلال استبدال ثوب الخدمة الكلاسيكي إلى ثوب مطرز بألوان زاهية تجلب السعادة وتريح نفس المتلقي وتيسر حياته.
من كل ما تقـدم، إن الزمن الذي يستقبل الحضارة الرقمية وتتدخل المعرفة في مختلف أدوات تشكيله وعمله، يجدر أن يتم بناء الوظيفة العامة في هذا الزمن على فلسفة تتواكب مع طبيعة حضارته الرقمية ومتطلباته المتغيرة وأهدافه التمايزية.
لذلك، يعتبر التحول من مفهوم الخدمة إلى مفهوم الابتكار ضرورة ملحـة تساهم في تغيير بنية الوظيفة وتطوير أهدافها وتعزز من قدرة الإدارات العامة على الخروج من أزماتها وينهض بالجهاز الحكومي للدولة بشكل عام، ويعتبر إنشاء وحدات في الوزارات والمؤسسات الرسمية للابتكار والملكية الفكرية من العوامل التي تكرس الفلسفة الابتكارية للوظيفة العامة.
الدستور