برود الأعصاب الذي تمارسه الإدارة الأمريكية إزاء ما يجري في أفغانستان، رغم تزاحم التصريحات الصادرة عنها، يشير بالجزم إلى أنها قد عقدت اتفاقا واضح المعالم مع حركة طالبان على ما يجري هناك. والمراقب لتسارع الأحداث في أفغانستان منذ شهور حتى يوم دخول كابل العاصمة من قبل مسلحي طالبان يتأكد له أن الاتفاق بين الطرفين يسير بمراحله حسب تعهدات معلومة، وإلا ما الذي يجعل الإدارة الأمريكية أن تلقي خلف ظهرها عشرين عاما من الاحتلال لأفغانستان، تكبدت خلاله خسارة المليارات وآلاف القتلى بهذه السرعة والسهولة، إلا إذا تعهدت طالبان أن تحافظ لها على ما أنجزته هناك، وأن تكمل هي المخطط بديلا عن الولايات المتحدة، ومن المرجح أن تكون الحركة قد التزمت التزاما قاطعا بأن لا تعود للإرهاب أو إيوائه، خصوصا أن طالبان لا بد لها أن تكون قد استفادت من تجربتها السابقة في حكم أفغانستان.
المهم أن ما جرى مؤخرا جاء نتيجة اتفاق أمريكي طالباني، ولا يمكن اعتباره انتصارا للحركة بالمعنى الفعلي للانتصار على، بل وجدت أمريكا ضالتهما في طالبان كحليف قوي لتلقي على ظهرها عبء حكم أفغانستان، بعد فشل كل من صنعتهم ليحكموا باسمها هناك.
المهم أن عودة طالبان بترتيب من الولايات المتحدة وأطراف دولية وإقليمية متعددة يؤكد أن نظرية القوة في الاحتلال المباشر الذي مارسته الإدارات الأمريكية في الشرق الأوسط عبر العقدين الماضيين أثبتت فشلها تماما، وأن المراهنات على قيادات ضعيفة من نوعية حكام أفغانستان السابقين هي مراهنات فاشلة، الأمر الذي ألجأها إلى وضع يدها بيدي طالبان " كحليف قوي" لإزاحة العبء عن كاهلها، إضافة إلى أن الإدارة الحالية تريد الالتفات إلى الشأن الداخلي والتفرغ لصراعها مع الصين وروسيا، ومن غير المستبعد وخدمة لهذا الهدف أن نتفاجأ ذات صباح، وبوقت قريب، بتوقيع اتفاق نووي جديد مع إيران لإنهاء هذا الملف، ولا يغرن أحد الشد المتبادل بين الطرفين، وربما يكون ما يجري في أفغانستان هو جزء من ترتيب الوضع مع إيران في المنطقة.
إن الوقت قد حان للدولة العظمى لإعادة ترتيب أوراقها في الشرق الأوسط، ليس طبعا إخلاء للساحة للاعبين جدد، بل هو تغيير تكتيكي لا يكون مكلفا كالاحتلال المباشر للأرض والصراع مع الشعوب.
لقد أصبح الاعتراف بفشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على صعيد مؤسسات القرار الأمريكي يجري على ألسنة سدنة هذه المؤسسات، ومعترف به على كل الأصعدة الثقافية والإعلامية والسياسية، وهذا يعني أن المواطن الأمريكي يشعر الآن أن جهودا كبيرة قد ضاعت كان يمكن تسخيرها لخدمة المصلحة الداخلية للبلاد، والتي كلفت دافع الضرائب الأمريكي مليارات الدولارات " وكذلك دافع الضرائب في الدول التي تحالفت مع أمريكا في حروبها في المنطقة"، كما تبددت وذهبت ادراج الرياح الطموحات لدى القيادات الامريكية بأن تكون الدول التي احتلتها مباشرة في خدمة الاقتصاد الوطني الأمريكي، بل على العكس، هذا الاحتلال الذي جاء بحجة مكافحة الإرهاب أرهق الخزينة الأمريكية بشكل كبير وربما أرهق الاقتصاد الأمريكي، وإن كانت أمريكا في مراحل كثيرة شنت حروبها بأموال غيرها.
طالبان تعود الآن إلى كابل، بعد عشرين عاما من طردها وملاحقتها بوجه جديد عمل على إنتاجه الأمريكي وحلفاؤه في المنطقة والعالم، فهل تنجح التجربة الأمريكية الجديدة؟ أم تكون النتيجة كذلك الذي ربى الأسد في حديقته فانقض عليه وأكله؟ وسيظل الدهر يدور والأحداث تتوالى في هذه المنطقة...