ليس فقط أنه جعل منا أفراداً متقوقعين على ذواتنا ومستكينين بخلواتنا ومندغمين بأحلامنا وهواجسنا ، وكأن الواحد منا يحيا وحيداً بفقاعة سابحة بفضاء بعيد ، بل هذا الجهاز العجيب (الكمبيوتر) جعل منا كائنات مختلفة كلياً عما كنا عليه ، فقد تدخل بكل شيء ، وعالج كل شيء باسمنا ونيابة عنا ، وحل جل الأعمال التي كانت من صميم مهام عقولنا،،.
ولا غرابة أننا نشهد مصانع بلا عمال ، وتعليماً بلا معلمين ، وسيارات بلا سائقين ، وهواتف بلا أرقام ، وبل ولربما سنشهد جنساً ومشاعر حميمة بلا رفيق، ، فهكذا سيؤول الزمن بنا ، فنحن نحمل الكمبيوتر في أيدينا ، وعلى مكاتبنا وحافلاتنا وغرف نومنا. ولكن ما حالنا ، إذا زرعت هذه الأجهزة في أدمغتنا؟، ، ناهيك عن ذلك السيل العارم لشبكة الإنترنت الذي أدار كل شؤوننا ، صغيرها وكبيرها ، وأنهى الفواصل المكانية والزمانية بيننا ، واضعاً الجغرافيا والتاريخ في الكيس مربوط،،.
ونحن مقبلون على عصر جديد سيشهد ولادة ثورة النانوتكنولجي ، أي الثورة الرقمية متناهية الصغر ، حيث المكبيوتر عالي المواصفات ، بحجم ذرة هواء أو أصغر ، أي كل مائة مليون كمبيوتر بطول سنتمتر واحد ، هذه الكمبيوترات ستزرع في أدمغتنا وخلايانا وكأنها جزء منا ، كمبيوترات متناهية الصغر لكنها محملة بشتى المعلومات والبيانات ، والصور والمعارف قديمها وحديثها،،.
فالإنسان سيكون أكثر ذكاء ومعرفة ، فيمكنك أن تحمل رقاقة كمبيوترية في دماغك ، تحوي كل الشعر العربي مثلاً ، ولن يكون هناك داع لترهق نفسك في تحفظ المعلقات ، ونقائض جرير والفرزدق ، وخمريات أبي نؤاس ، وستحمل بيانات عن كل البشر تقريباً ، فبمجرد أن ترى الرجل تعرفه فوراً وتعرف اسمه وجنسيته وميلاده وتعرف تاريخه من ساسه لرأسه ، عدا المعادلات الفيزيائية والبيانات التي تجعلك عالماً بكل شيء تريده ، فالعلم الذي يتطلب دراسة لسنوات ، سيكون متاحاً لتحمله بيسر في دماغك ، وستكون أنت الكاميرا ، فعينك تلتقط الصورة وعند أقرب استديو يمكنك تبيضها ، لكنك ستكون مشبوكاً بشبكة الإنترنت ، مما يعني أنك ستكون مكشوفاً بالقدر الذي أنت فيه مبهم وغامض،.
من جانب آخر ، وكضريبة إضافية ، باتت تنتشر في اليابان والعديد من البلدان المتقدمة مئات النوادي الخاصة بالضحك ، فهي تتخذ هذه الميزة الإنسانية الأكثر أهمية لعلاج الأمراض المستعصية للعصر التطور التكنولوجي ، بعد أن حل الاكتئاب في النفوس والرؤوس ، وبعدما غدا الواحد منا مبرمجاً كالكمبيوتر الذي يعمل عليه،،.
ربما سيكون الإنسان في ثورة النانوتكنولوجي أكثر ذكاء ، وأكثر معرفة ، وأكثر علماً ، والحياة أسهل وأسرع ، لكنه سيكون إنسان آلة ليس إلا،،. ولهذا أشعر أحيانا بأننا نحتاج إلى فرمته،.
(الدستور)