تنفق الدول العربية والأحزاب والحركات المتسلحة والأفراد جهرا وسرا مئات وآلاف الملايين على التسليح الرسمي، وغير الرسمي، وللزينة، والتفاخر. وتنفق دول عربية غنية وفقيرة على مظاهر التطور الفارهة والمستهلكاتُ وآخر ما تنتجه المصانع من منتجات أيضاً مئات الملايين. وتتقهقر دولٌ عربية بمراتبها التنموية جنباً لجنب مع بذخٍ لا يستحي من فقرٍ بنفس الشارع والقرية والمدينة. تأوي آلاف العائلات بأرباعِ بطون ممتلئة وتلبس أسمال ملابس وتستتر بخرائب أسقف. وتأوي الآلاف غيرها بالتخمة والديباج والسقوف المزينة. خيامٌ ومخيمات وعشوائياتٌ وناطحات سحاب ودواب ورباعيات الدفع وطفلٌ لا يجد مدرسة وخريجٌ لا يجد وظيفة وآخرين لا يتكلمون لغتهم وينتقون وظائفهم. عالمٌ من المتناقضات. كلٌ من المتخمين يقول أنا، ومن بعدي الطوفان، وكلٌ من المحرومين يستدعي الخلاص الإلهي وتكتسيه نقمةٌ لا تهدأ.
على من الحق في هذا؟ الإجابة صعبة، بل مستحيلة لأن الدنيا ليست عادلة بين الناس لكن العدالة تبقى هدف البشرية.
لستُ ضد التسلح الوطني بتاتاً لكنني مع عدالةٍ نفتقدها في الصرف الحكومي على التربية والتعليم والصحة والخدمات المجتمعية. متاحة هذه المعلومات عبر عدة مواقع علنية. عددتُ بعمليةٍ حسابيةٍ بسيطةٍ جداً كم تمتلك الدول العربية من الدبابات فقط. وصلتُ رقم ١٨٠٠٠ دبابة. كلفتها المتوسطة حوالي ٧٠ بليون دولار. حسبتُ حصة التعليم من الناتج الإجمالي القومي للدول العربية التي صرحت بأرقامها فوصلتُ لرقم ٩٠ بليون دولار. الحساب بسيط وعمداً قدرت سعر الدبابة بأقل من المعلن وجبرت خاطر ورقم التعليم، ولو حسبت باقي صنوف السلاح لوصلتُ لأرقام فلكية تُصرفُ على السلاح العربي الرسمي. و لو حسبنا باقي النفقات المدنية على الترف مقابل ما يخصص للقطاعات التربوية لهالتنا الأرقام. لقد عملتُ ببلدان عربية وعاصرت وحاولت معالجة جوهر ومظاهرَ التناقض بين بؤسٍ وغِنىً يدمى لها القلب ولا تجوز ببلادنا. بماذا نبرر اهتراء الخدمات وعمالة الأطفال وبطالة الشباب؟ أو موظفاً يقبل الرشوة ليعيش؟ وآخر يُجاهدُ لكيلا يرتشي بالعمل الثاني والثالث إن وجده؟ الأمثلة كثيرةٌ وقيلت مراراً ولن نستعيدها الآن لكنها فعلا تقودنا لليأس. فهل نلوم العربي إن غضب؟
نَعَمْ، التطويرُ الإسمنتي واضحٌ بمجتمعاتنا لكنه لا يتناسبُ مطلقاً وما يجب أن يكون عليه التطور المجتمعي القائم على التربية والخلق والعلم والإيثار والتخصص والجودة والتسامح ونحن نطمح ونطمع بكل هذا، والعدالة فيها. إن خُلِقنا غير متساويين في الرزق والمقام والفهم، فيجب طوعا أن نعمل لعدالة اجتماعية ممكنة لنستطيع تلافي كثرة الفجوات المعيشية ومحو ظواهر القسوة الحياتية. لا يكون هذا إلا بالإرادة الإنسانية المتسامحة والتواقة للتغيير والقابلة للتوافق عليه والعمل المنظم لتحقيقه.
لو لعامٍ واحدٍ فحسب تحولت ميزانية التسليح المخصصة للجديد من العتاد في العالم العربي، وليس النفقات الجارية للدفاع، و هي بيد الدولة لا غيرها، لقطاعي التعليم والصحة وللتطوير المجتمعي فهل سنرى فرقاً يعيد لنا التفاؤل؟ لو لعامٍ واحدٍ فحسب أجمعَ أصحابُ المال لوضع زكاة أموالهم وصدقاتهم بصناديق وقفيةٍ دوارة تفتح للشبابِ فرص عمل وتقي الأطفالَ عمالةً مُهينة فهل سنرى فرقاً إيجابياً؟ هذه أفكارٍ وغيرها كثير مما يمكن أن تجودَ به العقول حول كيفية التغيير والاستثمار بالبشر للبشر ومستقبلهم.