بروح اليوم العالميّ للغة الأصليّة، أو اللغة الأم، الذي أقرّته الأمم المتّحدة في 21 من شباط من كلّ عام، ويدعو إلى تعزيز التنوّع اللغوي والتعليم المتعدّد للغات، وتسليط الضوء على ضرورة زيادة الوعي بأهميّة التعليم القائم على اللغة الأم، أجد نفسي مضطرًا اليوم للقول والمناداة: انقذوا اللغة الأم.
ففي هذا الصيف «الآمن» قيّض لي بحسب الرسالة الكهنوتيّة أن أشارك بمناسبات عديدة وبالأخص في منح السرّين المقدّسين: المعموديّة والزواج. ومن اللقاءات مع العائلات المقيمة في الأردن، أو القادمة من دول عربيّة وأجنبيّة لزيارة مؤقتة أو عودة دائمة فرضتها جائحة كورونا، شعرت بأنّ اللغة الأم - العربيّة - ضائعة لدى كثير من أبناء وبنات الجيل الطالع. وصرنا نردد مع الشاعر حافظ ابراهيم الذي وضع قصيدة بمثابة «شكوى اللغة العربية» في مطلع القرن العشرين، وقال فيها:
رجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي
وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني
عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
ثمّة أطفال لا يتكلمون العربيّة، وفي البيت أمست اللغة الإنجليزيّة هي أساس التحدّث والتخاطب وحتى المشاجرات العائليّة «السلميّة». ثمّة أطفال يدرسون في مدارس تعلّم وتقدّم المناهج العالميّة بأشكالها وتسمياتها المتعدّدة، لكنّ اللغة العربيّة ضائعة. ثمّة أطفال اغتربوا مع ذويهم لبعض السنوات وتكلموا لغات أجنبيّة دون أن يتنبّه الأهل لضرورة تعلّم اللغة الأصلية أو اللغة الأم. ثمّة أطفال لا يأتون إلى بيوت العبادة - وهنا أقصد الكنائس، لأنهم -وهذا قد سمعته من الأهل - لا يقرأون ولا يكتبون ولا حتى يفهمون اللغة العربيّة المستخدمة في الصلاة. ثمّة أطفال يتحدّثون مع النساء العاملات في البيوت من جنسيات أجنبية، وبالتالي انّ لغة التخاطب اليومية هي الانجليزية.
إذًا هي دعوة إلى ترسيخ الأمانة للجذور العربيّة لدى أطفالنا الأحباء، بأن نكثف السعي نحو تعلّم اللغة فنجذّر فيهم محبة وطنهم الصغير ووطنهم العربيّ الكبير. وهي كذلك دعوة إلى عمل مسابقات وأنشطة تثقيفيّة لهؤلاء الأطفال المتعلمين في الخارج، أو في داخل مدارسنا التي تقدّم أطباقًا شهيّة من اللغات الأجنبيّة وتنسى أو تتناسى اللغة الأصليّة.
كنّا في الماضي نتحدّث عن صعوبة التواصل بين العقليات، وبين الأجيال المختلفة عمريًا، بسبّب أن الزمن تغيّر، ولم تعد لغة التواصل بين الاجيال موجودة. والخوف اليوم أن ينقطع هذا التواصل ليس بسبب العقليات بل بسبب اللغات، وفي داخل البيت الواحد ثمة تفاوت في الالسنة، وباتت مسؤوليّة تعليم اللغة العربيّة أساسيّة وليست ترفًا.
في يوم من الأيام كنت عريف حفل بمناسبة وطنيّة في إحدى جامعاتنا العزيزة التي تقدّم العلم باللغة الإنجليزيّة، وأذكر أنّ أحد الطلاب المتحدثين قد كتب كلمته العربيّة كاملة بأحرف لاتينيّة. كان النطق سليمًا لديه، لكنّه لا يعرف الكتابة بالأحرف العربيّة، وقد قرأ كلمته من الشمال الى اليمين.
هي مسؤوليّة وواجب أخلاقي وتاريخي وحضاري على الأهل الأحباء وعلى المراكز الثقافيّة، وحتى على دور العبادة... ولنقل بصوت واحد: معًا لإنقاذ اللغة العربيّة وبأحرفها العربيّة.
(الرأي)