وُضٌعَت كأس بين شخصين جالسين على طرفي طاولة.
سأل المحاضر أحدهما: ما لون الكأس؟ فأجاب: أسود. ثم سأل الآخر: ما لون الكأس؟ فأجاب: أبيض.
القاعة تغص بالحضور الجالس أمام الطاولة. والحضور محتار في أي من الإجابتين صائبة، وأيهما خاطئة!
المحاضر يبتسم للجميع! ثم يسأل أحد الشخصين: أمتأكد أن لون الكأس أسود؟ فيجيب: نعم متأكد! ثم يسأل الآخر: أمتأكد أن لون الكأس أبيض؟ فيجيب: طبعا متأكد!
يبتسم المحاضر مرة أخرى والحضور في حالة ذهول! ثم يسأل المحاضر أربعة من الحاضرين أن يجلسوا بجانب أحد الشخصين، ويسألهم الخمسة: ما لون الكأس؟ فيجيبون جميعهم بكل ثقة دون أدنى تردد: أسود! ثم يسأل الشخص الجالس عل الطرف الآخر من الطاولة: ما رأيك الآن؟ فيجيب بدون تلكؤ طرفة عين: لون الكأس أبيض!
بدأ بعض الحضور بالتهكم والسخرية، وبدأ البعض الآخر بالإستهجان، بينما المحاضر صامت لا يبالي بسخرية وتهكم هؤلاء ولا بإستهجان أولئك، ويسأل الحضور: ما رأيكم؟ فأجاب أغلب الحضور بأن لون الكأس أسود!
إبتسم المحاضر إبتسامة ذات مغزى! ثم وقف عند منتصف الطاولة، أمسك بالكأس وأدارها رويدا رويدا أمام الجميع ثلاثمائة وستين درجة!
يا للهول! نصف الكأس تقريبا لونه أبيض والنصف الآخر إلى حد ما لونه أسود!
إذن طرفا الطاولة كانا محقين ومبطلين في آن واحد! كل واحد منهما نظر إلى زاوية من زوايا «الحقيقة» وأهمل الزوايا الأخرى!
والجدل بين أي إثنين حول أي «حقيقة» قد يكون على هدا المنوال! الأول ينظر لتلك «الحقيقة» من زاوية ما، والآخر ينظر إليها من زاوبة اخرى مختلفة كليا، و«الحقيقة» قد تكون واحدة.
ومن هنا، أطلق العلم صرخته المدوية بأن «الحقيقة» موضوعية أي الكأس بلونيها، وبنفس الوقت ذاتية أي الكأس بلون أحد نصفيها.
والموضوعية صفة الأفكار إذا تجردت من العواطف، والذاتية صفة العواطف دون الأفكار. * بكلمات أكثر شمولية؛ فإن الذاتية "يُقْصَد بها كل ميول الباحث [أو المفكر أو الكاتب... إلخ] وتجاهاته الشخصية [خطأ مطبعي على الأغلب، والصواب: واتجاهاته] واقتناعاته الفكرية. أما الموضوعية فيُقْصَد بها كل ما له صلة بالظاهرة "موضوع" البحث..."**
زبدة الحديث أني أرجو منكم سادتي القراء أن تتذكروا دوما مثال الكأس هذا عندما تدخلون في جدل ما مع أي كان حول أي «حقيقة»! هذا إذا كان هناك «حقيقة»!
على هامش المقال:
نقرأ في كتاب (خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة) لمؤلفه د. علي الوردي، دار الورّاق للنشر، الطبعة الثانية (1996)، ص(60):
التقى فارسان من فرسان القرون الوسطى عند نصب قديم فاختلفا في لونه، أحدهما يقول إنه أصفر والآخر يقول إنه أزرق. والواقع أن النصب كان أصفر وأزرق في آن واحد، حيث كان مصبوغا في أحد وجهيه بلون يخالف لون الوجه الآخر. ولم يشأ هذان الفارسان الشهمان أن يقفا لحظة ليتفحصا لون النصب من كلا وجهيه. لقد كان هَمُّ كل منهما منصبا على تفنيد الآخر واعلان خطأه. وكانت النتيجة أنهما تبادلا الشتائم اللاذعة ثم تبادلا ضرب السيوف والرماح من بعد ذلك.
حواشي المقال:
*كتاب (علم النفس)، لمؤلفه جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، طبعة ثانية (1984)، ص(192)
** كتاب (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية)، للمؤلف د.عبد الوهاب المسيري، المجلد الأول، دار الشروق، الطبعة السادسة (2010) م، ص(21)