كالمعتاد جاء الخطاب الملكي طلقة أخرى على أمل فرملة حالة استقطاب تتعمق منذ أشهر حول الهوية ومخاوف الوطن البديل أمام أنظار صانعي القرار وتنذر بعواقب وخيمة على الامن المجتمعي. لكن المشكلة أن "الكل يغني على ليلاه", إذ يسارع كل طرف إلى تفسير الخطاب على هواه وبما يتلاءم مع قناعاته.
رغم شمولية الطرح الملكي برزت جزيئيات قابلة للتأويل; من بينها "الجميع مطالب بالتصدي لكل من يحاول الخروج على القانون والعبث بالامن والاستقرار والوحدة الوطنية وإثارة الفتنة". إذ قد تجد بعض الفئات في هذه الدعوة بابا لفرز هيئات خارجة على مظلة الدولة أو موازية لها.
لكن خطاب "التطمينات" الملكي, ملاذ السياسيين المتناحرين إذ يخفقون, قد يساهم- مؤقتا على الاقل- في تسكين الجدل المجتمعي المقلق طالما بقي الشعب الفلسطيني من دون وطن وغير قادر على تقرير مصيره وحسم ولاءاته السياسية, ما يشكل ضغطا على الاردن.
وسيظل هذا السجال جزءا من الفولكلور السياسي طالما تضاءلت فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة متواصلة جغرافيا وقادرة على الحياة, اللهم الا إذا حدثت معجزة أمريكية-إسرائيلية. فسجال الهوية المقلق والعقيم سيتعمق, باعتباره يعكس مخاوف جذرية ومطالب مصلحية للمكونين الرئيسيين في المجتمع. الفرز والاستقطاب سيتعمقان ما لم تتبن مؤسسات الدولة استراتيجية واضحة, بعد الاقرار والافصاح بأن أيامنا ليست عسلا. ولا بد من تحديد أبعادها السياسية, الاقتصادية, المجتمعية والتاريخية المتداخلة ورسم خارطة طريق صوب تحقيق أمن مجتمعي في دولة قانون ومؤسسات على نحو يتعدّى الخطاب الرسمي.
فما الفائدة في غياب إرادة واضحة لمأسسة الاصلاح السياسي ومعاقبة المفسدين خارج إطار الكيدية التقليدية, تعزيز دولة المؤسسات واحترام الدستور من قبل الجميع? وما الفائدة من التغني بالاصلاح السياسي وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار في غياب تيار إصلاحي وطني مقنع يمد جذوره أفقيا وعموديا بعيدا عن المحافظين السياسيين والتيار الاسلامي وما بينهما صوب أردن للجميع - لكل من يحمل رقما وطنيا بغض النظر عن الاصل والفصل طالما أن وحدة الضفتين عام 1950 ضمنت حقوقا متساوية, مع الاحتفاظ بحق الفلسطيني بالعودة إلى دياره.
لنتخيل سيناريو يتشكل بموجبه مجلس حكماء برعاية الدولة يضم رموزا يمثلون أكبر كتلتين في المجتمع - غير ملوثين بالاقليمية والتعصب الشوفيني الاعمى.
من وحي شرعية الملك, حجر الرحى والقاسم المشترك بين جميع الاردنيين, يناقش المجلس المنشود وجهات النظر المختلفة وصولا إلى أرضية مشتركة على قاعدة الوطن لجميع سكانه, بعيدا عن العصبيات الجهوية والاقليمية. وحتى لا ندخل نفقا مظلما في غياب الاصلاح الحقيقي, يضع كل مكون هواجسه على الطاولة ويطرح أفكارا وحلولا هدفها الاسمى صون الوطن وضمان أمنه واستقراره.
فمن حق الاردني أن يضمن وقف التهجير "الناعم" من الضفة الغربية بما يهدد التوازن الديمغرافي هنا, وينذر بتفريغ فلسطين من سكانها. ولرفيق دربه في الهوية, الجيرة والنسب حقوق وواجبات, إذا رغب في الانصهار في المجتمع, بشرط عدم انطباق قرار فك الارتباط (1988) عليه.
في المحصلة على الدولة ترجمة نتائج الحوارات على الارض بشفافية. لا بل عليها فرض تلك التفاهمات على الجميع بعيدا عن المصالح الضيّقة حتى ترمم جسور الثقة, وتستعيد هياكل الدولة توازنها.
مجلس السياسات الاقتصادي والمجتمعي, الذي يرأسه وزير الخارجية الاسبق عبد الاله الخطيب, قد يشكّل منبرا مقبولا للتحاور حول الامن المجتمعي بمختلف جوانبه, وتفعيل العقد الاجتماعي ليواكب التطورات المتداخلة مذ قام بين القصر والاردنيين مع نشأة الامارة عام .1921 علينا الانتقال إلى فضاء الدولة المدنية, حكم القانون وسيادة الشعب ضمن المعايير السائدة في عالم الحداثة والتنوير, لا أن نتقوقع إلى مقارنة حالنا مع دول مجاورة أكثر تخلفا كأن نقول: "يللي عندنا بيكفي وبوفي". فالتغيير جزء من الحياة.
ما أحوجنا اليوم إلى فتح حوار بين كتلتي المجتمع الرئيسيتين لترتيب العلاقة من جوانبها كافة. لا بد من استعراض تاريخ تداخل العلاقة قبل الوحدة وبعدها, مرورا بقرار العرب في الرباط (1974) اعتبار منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للفلسطينيين, وأيضا فك الارتباط القانوني والاداري. يلي ذلك مرحلة اتفاق أوسلو (1993), الذي طعن الاردن من الخلف ووضعه في "خانة اليك", قبل أن يبرم الراحل الحسين بن طلال معاهدة سلام في العام التالي. وما يزال الاردنيون والفلسطينيون يدفعون حتى اليوم ثمن تلك الصفقة الخفية, لأنها فشلت في تحقيق غاياتها. بعد ذلك يتوصل الطرفان إلى قناعة مشتركة: "لا بد أن نتحمل بعضنا بعضا", حسبما يرى مسؤول رفيع سابق. ويجري التوافق على "وجوب عمل شيء لتهدئة النفوس".
سيتوافق المكونان ضمن الثوابت التالية:
- المظلة الهاشمية; صمام أمان جميع حاملي الرقم الوطني. ولا يحق لأي مكون سحبها لجهته.
- الدستور الجامع لم يستنفد بعد لتغييره. لكن المطلوب تحديث القوانين والتعليمات واستنباطها بما يخدم دولة المؤسسات والقانون وفصل السلطات فعلا لا قولا, تطوير المشاركة السياسية وقع ازدهار اقتصادي متدرج.
- منع كل العصبيات الجانبية.
- حظر السلاح خارج نطاق أجهزة الدولة وإبقاء أدوات العنف المشروع تحت احتكارها وحدها وتحت شرط التزامها بحماية الدستور وحكم القانون وحيادها بين المواطنين.
- تنمية الاحزاب الوطنية ذات البرامج التي تعزز تكافؤ الفرص والتمثيل السياسي وتضمن الحقوق المدنية للجميع.
من المفيد الاطلالة على تصنيفات صندوق أمريكي "من اجل السلام" وضع منهجا لتقويم عوامل الاستقرار أو هشاشته لتحديد درجة فشل الدولة. من بين العوامل ال¯ 12 التي استند إليها هذا الصندوق, ثلاثة تتصل بالوضع المجتمعي; الضغط السكاني, حركة اللجوء الداخلي والخارجي ووجود جماعات تتوارث الاحساس بالظلم أو التفوق. وهناك عاملان اقتصاديان; النمو غير المتكافئ والازمة الاقتصادية الحادة أو الشديدة فضلا عن ستة سياسية; تجريم الدولة, نزع الشرعية عنها, تدهور الخدمات العامة, تعليق حكم القانون, انتهاك حقوق الانسان, وعمل الاجهزة الامنية بطريقة "دولة ضمن دولة", بروز النخب العصبوية وتدخل الدول الاخرى أو تزايد التأثيرات السياسية الخارجية.
في مؤشرها السنوي الخامس عام ,2009 ذيلت الصومال سلم الدول الاكثر قابلية للفشل (38 في خانة اللون الاحمر), فيما حل السودان ثالثا والعراق سادسا ثم اليمن ,18 لبنان 29 فإيران في المرتبة .38
الاردن احتل المرتبة 86 ضمن الشريحة الثانية (اللون البرتقالي), التي ذيلتها سورية في المرتبة 39 فيما تصدرتها كرواتيا في الطرف الاخر (131).
لم يعد لدينا مسوغ لحمل العصا من النصف والتغني بأننا أفضل من دول الجوار. فالمعادلة القديمة التي حفظت توازنات الدولة عبر توزيع الادوار بين مكونات المجتمع لم تعد تساعد على حفظ السلم الاهلي في عصر العولمة واقتصاد السوق الذي ساهم في خلخلة طبقات المجتمع وتعميق الفجوة بين من يعتمد على وظائف الدولة وعلى القطاع الخاص.
والافضل ان نتحرك اليوم قبل الغد لنضع جدل الهوية ومخاوف الوطن البديل على الطاولة بحثا عن قواسم مشتركة وحلول ناجعة حتى يأتي اليوم الموعود - قيام دولة فلسطينية!!!!.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)