.. بعيد المغرب كان يحمل التلفزيون من الغرفة الوسطى الى العريشة مثل جدّ مسنّ ، بواسطة شخصين مشهود لهما بالرزانة والتروّي..يركّز في مكانه جيّداً ، يوضع وسادة على الأرض قبالة شاشته لحمايته في حالة «كُبّ» على وجهه فجأة..ويدسّ «باكيت» جولد ستار فارغ يتبرّع به الوالد لوضعه تحت الرجل اليمنى الأمامية، يحضر محوّل ثقيل ليحميه من ضعف الكهرباء المفاجىء ..يتم ربط أسلاك «الشبكة» في برغيين خلفيين ثم يطوف السلك فوق الرؤوس ليدخل في شبك حماية الغرفة المطلة على العريشة ثم يرفع ويلف على احد القضبان..
صحيح أن البث كان يتأثر مع كل نسمة هواء صيفية ، أو يبدأ «النمش» التلفزيوني بالتزايد اذا ما صلّى احدهم على بعد 5 امتار..مما كان يدعونا للقيام بتوجيه التلفزيون لزاوية مختلفة أو «نفرط» الاسلاك المربوطة ثم نقوم «بفتلها» من جديد وتعليقها بالبرغيين المخصصين..
كانت تحدث قصص عجيبة غريبة لا اجد تفسيرا لها حتى اللحظة ..مثلاً اذا ما وضعت «إبريق وضوء» على الدرجة المقابلة للعريشة..يصبح بث التلفزيون«طبع»..واذا ما ازحته من مكانه بقصد او بدون قصد يتشوش و«يجعجع» الصوت..لذا كان واحدة من اساسيات الحصول على البثّ الجيد هو ان تملأ «ابريق وضوء» وتضعه على الدرجة المقابلة منذ اللحظات الأولى للغروب..
وقتها..كان لكأس العالم طعم..فرق بالأبيض والأسود.. طبعاً لا نفرق بين الأبيض ودرجاته الأخرى بيج اصفر بسهولة ..لذا كان علينا ان نتعرّف على اللاعبين «ع الدمّية».. لاعبون يرتدون «شورتات» ضيقة وقمصانا ملتصقة بالجسم..وشعر طويل..ومعلّقون أجانب لا نفهم منهم سوى عبارة «جوووووووول»...في نهاية المباراة بالكاد نلمح الزميل محمد جميل عبد القادر يودّع المشاهدين بعبارات مختصرة الى مباراة قادمة..بينما «عيونه مدبّقات من النعس»..
كانت العريشة عامرة بنا ..وطويلة تلك الليالي مثل ساقي ابي الممدّدتين أمام الشاشة ، وكان الصيف شاباً ، وكأس العالم متاحاً للجميع دون تقتير او احتكار او منّة.. تلفزيون « الناشيونال» المزاجي كفيل أن يوحد أمزجتنا جميعاً ..والحياة ما زال فيها متّسع لأكثر من كأس للعالم...الآن كل شيء تغيّر.. صالات ومقاهٍ وخيم..لكن المتعة مفقودة والبال مشغول ..
***
حسب قناعتي : لم يبق طعم لكأس العالم منذ أن جرّدوا الحكام من لباسهم الأسود.. ولم يصل الاستمتاع الى حدّه الأدنى منذ أن كف أبي «ساقيه الممدّدتين» عن الدنيا.
ahmedalzoubi@hotmail.com
(الرأي)