السلط ..
المحامي عبدالكريم ابراهيم الكيلاني
03-08-2021 02:15 PM
حاضرة العلماء و مقصد الاولياء و مرقد الانبياء.
تطل شرفات السلط على مراكز روحية عظيمة ، واعمدة للنور اضاءت دروب هذه المدينة المقدسة ،فكم رفاة نبي ضمت ارضها ، وكم استغاثة ولي سقت سماؤها، هي العاصمة الروحية للاردن واحدة من ابرز مدن النور فيه .
و قد وردت الاحاديث النبوية في ذكر الحوض الممدود ،وتضمنت الاشارة الى البلقاء :
( حوضي من عدن الى عمان البلقاء ...)
ويباهي النبي عليه الصلاة و السلام بكثرة الرواد على حوضه عن باقي الانبياء فيقول
( ..يباهي الانبياء ايهم اكثر واردة واني ارجو ان اكون اكثرهم واردة)
واستخلص اهل الفقه و العرفان من ذلك كله ،القيمة الروحية و العلمية للمكان ، فوردوا وردها ، وما انقاه موردا و اطيبه مشربا .
تشير المصادر التاريخية ، الى الاهتمام العلمي القديم ، بمدينة السلط ، حيث انشئت في المدينة بالقرن الرابع عشر الميلادي ، الجامعة الاسلامية ، واشرف عليها سيف الدولة عبد الله بكتمر سميت باسمه المدرسة السيفية ، وهو عالم وفقيه جليل توفي في السلط كما تشير بعض المصادر ،
وتبع ذلك اهتمام الفقهاء بالسلط فتخرج من مدرستها السيفية قضاة و علماء بلاد الشام ، مثل قاضي دمشق و قاضي نابلس و قاضي عكا و قاضي السلط .
كما قصدها الشيخ نعمة الملقب بالصلتي، الفقيه الصوفي ، الذي كان مدرسا في المدرسة السيفية،وعاش في السلط وفيها دفن ، واقيمت له مراسم التشييع ، وضربت له في ميدانها الكبير الصولاجانات، و التي كانت تضرب للسلاطين و الولاة في العهد العثماني .
وقد اشتهرت السلط بالعديد من مراقد الانبياء ، من اغلب جهاتها ، فمقام يوشع عليه السلام ، الذي شيد في العهد الايوبي ، يطل على جبال القدس وسفوح فلسطين .
كما يبعد عن هذا المقام بضعة كيلو مترات ، موقع المصلى منطلق جيوش الفتح الاسلامي يصلون فيه قبل اتجاههم الى بيت المقدس ومسجد المصلى يطل على مقامات ابي عبيدة ، وضرار و شرحبيل بن حسنة عليهم رضوان الله ،
ومن ناحية اخرى مقام النبي ايوب وجواره جامعة البلقاء ، ومقام النبي جاد او جادور وجواره مدرسة السلط .
ومن جهة الجنوب مقام النبي شعيب ، وسمى وادي شعيب وفي الطريق اليه عين حزير ، بجوارها مرقد في جوف كهف ارضي ، قبلته الى القدس العادة المتبعة في شرعة موسى عليه السلام بدفن الانبياء في الكهوف و المغارات .
ولا يعرف على الجزم و اليقين ساكن هذا الضريح وفي رواية انه العزير وقد اقيمت مقابر البلدة على التلال المحيطة وسميت بالعُزيرية نسبة الى عزير ، و يقال ايضا العيزرية، على غرار ناحية مقابلة في القدس .
وقد اولت اللجنة الملكية للاعمار اهتمامها بالمقامات و الاضرحة الدينية ، فاقيمت المساجد ، والمراكز العلمية ، ويرتادها و لله الحمد ، الاف الزورا و العشاق و المحبين من دول العالم الاسلامي .
ونذكر هنا ان الكسوة الشريفة لبعض المقامات ، يصنعها المحبون في جنوب آسيا سنويا و تحاك يدويا ، فتنسج خيوطها بانامل الشوق و المحبة لتهدى كتعبير عن التعلق الروحي الذي تجاوز حدود المكان من الزورا والرواد الذين وردوا مورده.
كيف لا فالسلط ،لا يفصلها عن القدس حد ، جغرافي و لا وجداني .
وقد بنيت بطابع معماري شديد التشابه مع القدس ادهش روادها من المقدسيين فتشابه الاسماء و الاماكن بين المدينتين امر لافت كما تقدم ومن ذلك ايضا موقع الخضر و الميدان وتشير الخرائط العثمانية الى اعتبار السلط كجزء من اعمال بيت المقدس .
واعتاد اهل السلط الصلاة في الاقصى ، كل جمعة ، قبل الاحتلال البغيض
وقد انشد الشاعر بهجت الصليبي :
هناك بذلك العلم
منازلنا من القدم
ترى عيني مرابعها
و لا تخطو لها قدمي
في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين قصد المدينة العديد من ارباب الطرق الصوفية :
منهم الشيخ محمد الامين القذف ،كما لقب في البلدة، و اصلها ( الاغظف ) وهو موريتاني الاصل و ينتمي الى طريقة صوفية كبيرة ، تقوم على المجاهدة و العمل ، تطبيقا للحديث خير للناس انفعهم للناس ، و قد سمي الشيخ ، محمد امين الكيلاني تيمنا باسمه ، حمل الكيلاني بالفعل لواء التصوف و العمل الخيري وتقلد ارفع الاوسمة الملكية تكريما لجهوده .
كما نذكر منهم الشيخ محمد الانصاري ، الذي ارتحل من مدينة غدامس الليبية .
وقد اشتهر بقوته الروحية ، ونفوذه الواسع في عالم الماورائيات ، وتروى عنه العديد من المواقف والحكايات الشعبية كما جاء عدد من الفقهاء من من المغرب العربي الشيخ صالح السنوسي ، وقد اشتغل بالقضاء وكان من اوائل قضاة الشرع فيها .
ووفد اليها جمهرة كبيرة من العلماء لا تحصى اسماؤهم في القرن التاسع عشر و العشرين .
منهم الشيخ مصطفى الكيلاني القادري مفتي الديار و عالمها امام مسجدها الكبير ، و الشيخ محمد صالح مريش القاضي و الفقية ، و الشيخ محمد الامين الشنقيطي الذي شغل منصب قاضي القضاة ووزيرا للتربية و التعليم ودفن في بقيع رسول الله ، عليه الصلاة و السلام .
كذلك كانت البلدة مهبط افئدة الدراويش الجوالين واصحاب الجذب ( بالمعنى الصوفي) وهو مقام صوفي رفيع يحمل معنى الانجذاب الى الحق ، من هؤلاء الدراويش .الشيخ بهجت الدمشقي ، الذي كان ياتي البلدة سيرا على الاقدام من دمشق .
و كان الطابع المحافظ في المدينة جزءا من قداستها ، فيذكر الراحل رؤوف ابو جابر ان النساء من كافة الطوائف كن يحرصن على الزي الذي يكسو المراة من اعلى الراس حتى القدمين لما تحمله السلط من معاني القدسية و المكانة الايمانية الواحدة لدى جميع طوائفه، بمختلف معتقداتهم .
وهنا لا بد ان يُذكر الاب اندرو الملقب بابن النجار الذي عمل من خلال مؤسسة المدينة المقدسة وخدم في مدينة السلط قرابة ٤٠ عاما ،
وامضى حياته فيها كعنوان للعمل الخيري للمؤمنين كافة .
في سبعينيات القرن الماضي ، جاء الشيخ محمد الشعراوي ضيفا على البلدة فور دخولها قال :اشتم فيها رائحة النقشبندية، وبالفعل فقد دفن في السلط عدد من اعلام الطريقة النقشية .
هذه اضاءات سريعة لذاكرة المكان ،تكشف عن مكانته الروحية و العلمية ، التي جعلته قبلة ومزارا، يجد فيه المؤمنون من عمارها، قوتًا لقلوبهم، وطمانينة في نفوسهم و سكونا لمهجهم ، من اقاصي افريقا الى جنوب آسيا ومن اوروبا الى جنوب امريكا ، جاؤوا ليضعوا فيها ،اشواقهم، و لتضع السلط لهم اضعاف ذلك و الله اعلم بما وضعت .
السلط ،
كيفما تنفس المرء تنشق عبير الانبياء ،وكيفما تلفت ، ابصرت مسير الصديقين ، و حيثما تعقبت الخطى سرت على قدم الصالحين .
ختاما لابد ان اشير الى اقتباس مادة المقال من عدة باحثين ولمن اراد التزود الرجوع لمؤلفات الاستاذ درويش الكاشف ، الاستاذ الدكتور محمد خريسات ، الاستاذ الدكتور عبد الله الكيلاني ،مدونة هنا السلط.