كان يعمل بائعا متجولا أحيانا ، يبيع أشياء بسيطة تافهة: علكة أو محارم جيب ورقية ، أو أي سلعة مماثلة لا يهتم بها الناس كثيرا ، وأحيانا كان يحمل بعض الإعلانات أو البروشورات الخاصة بفتح محل جديد ، أو عروض خاصة لدكان ، أو بيان انتخابي أو (انتحابي،) لمرشح ، ويوزعها على المحلات والعابرين ، لقاء أجر تافه ، ولكنه كان يحرص على أن "يجمد" كل يوم دينارا واحدا في المعدل ، ليذهب آخر يوم عمل شاق لإيداعه في البنك ، أو هكذا كان يهيأ له(،).
بعد عام من هذا العمل المضني ، ذهب إلى بنكه وطلب من المدير أن يسحب المبلغ أو "تحويشة العام" كي يتأهل ويخطب بنت الحلال ، استغرب مدير البنك من هذا الطلب ، فصاحبنا ليس له حساب في البنك ، ولا يملك أي مستندات تثبت أنه كان يودع أي مبالغ في البنك ، بعد تحر قصير ، تبين أن البائس الذي يصفه الناس من معارفه بأنه (على البركة) كان يزور البنك يوميا ، يلقي التحية على الموظفين ويضع الدينار الذي يحصل عليه من عمله المضني في.. صندوق تبرعات لإحدى الجمعيات الخيرية موجود في قاعة البنك ، ظنا منه أن هذه هي الطريقة المثلى في الإيداع،.
عام كامل وهذا البائس يتبرع بعرق جبينه لأمثاله ممن يستحقون الصدقة والمعونة ، مدير البنك رغم تعاطفه الشديد مع هذا (اللي على البركة) لم يعرف ماذا يفعل ، ولا أنا أيضا طبعا ، ولكنني شعرت حينما روت لي زوجتي الواقعة كقصة طريفة ، أنني هويت من عل إلى منحدر سحيق ، عام كامل من الجد والاجتهاد ذهبت في طرفة عين إلى المجهول ، نحن نتحدث عن 300 يوم (أو دينار) تقريبا ، مع خصم أيام العطل الرسمية والأعياد ، وسوء الحظ أيضا ، إذ كانت الأحوال تسوء في بعض الأيام فلا يقوى المسكين على "تجميد" الدينار ، فلا يذهب إلى البنك ليودع ديناره الموعود،.
مشاعر كثيرة انتابتني وأنا استمع لهذا المشهد المؤثر ، عمل سنة كاملة لا يساوي أحيانا ثمن عشاء فاخر أو سهرة عابثة لثري ، يتبخر في لحظة ، بعض الناس يكسب هذا المبلغ في لحظة ، وآخرون يعملون شهرا كاملا يريقون فيه ماء وجههم إرضاء لصاحب العمل لقاء الحصول على هذا المبلغ ، بعض آخر لا يرى مثل هذا المبلغ أصلا ، لأنه بالنسبة لهم قد يكون ثمن سجائر أو مكسرات ، أو بنزينا لسيارة فارهة ، اللهم لا حسد ، أنا لا أعرف ماذا أقول ، مجرد شعرت بالقهر والتعاطف مع هذا المُبتلى ، وكثير غيره لا يعلم بهم سوى الله ، فيا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك،.
hilmias@gmail.com