رغم الهزائم العسكرية التي مُني بها العرب في حروبهم مع العدو الصهيوني، ظلوا ممسكين بسيادتهم وإرادتهم، وبقيت معنويات الشعوب العربية عالية لم تنكسر إلى أن تم استدراجهم إلى موائد المفاوضات مع أعدائهم فقبل فخ التفاوض لم تفتر هممهم وكانوا يصرون بعد كل حرب على الاستعداد لخوض حرب أخرى يحدوهم الأمل بالانتصار مهما غلت التضحيات وعلت التحديات.
كانت فكرة التعاطي مع العدو رجساً من عمل الشيطان، وكان مجرد الجلوس على مائدة واحدة مع صهيوني في أي مكان في العالم ولو بالخطأ، خطيئة كبيرة تستوجب الاستغفار.
وكان قانون مقاطعة الشركات الإسرائيلية أو الغربية التي تتعامل مع دولة العدو مطبقاً بحذافيره لا تجرؤ دولة عربية على خرقه.
الصمود ظل يمثل عقيدة كل العرب إلى أن وقَّع أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978 ليبدأ بعد ذلك مسلسل التفكك والانهيار والتخلي علناً عن خيار الحرب بزعم أنه يحول دون التطور والتنمية وان خيار السلام سيعوضهم عما فاتهم من تقدم وسينعكس على الشعوب رفاهاً برفع مستوى معيشتهم.
بالطبع رافق أول خطوة استسلام ضخ إعلامي كثيف لاقناع الشعوب العربية أن القادم أفضل من القائم وأنهم سيودعون حياة التقشف والقلق إلى غير رجعة ليحل الرخاء محل الشقاء، أما القيادات فلم تكن بحاجة إلاّ إلى من يقدم على أول خطوة التي اعتبروها صافرة الركض للحاق بقطار الاتفاقيات.
نظرياً خيار السلام يطلق التنمية التي تجلب الرفاه والأمان للشعوب، هذا ما حدث لدول الحلفاء والمحور الغالبة والمغلوبة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد خلَّفت الحرب دماراً طال الجميع، وجلب السلام رفاهاً طال الجميع أيضاً، وأكبر مثال على ذلك ألمانيا واليابان الدولتان الأقوى اقتصاداً على مستوى أوروبا والعالم قياساً لحسابات المساحة والسكان والموقع والمدة الزمنية التي استغرقتها عملية إعادة النهوض لماذا لم يحدث هذا مع العرب؟ الإجابة بسيطة وسهلة وواضحة.. لأنهم عندما وقَّعوا اتفاقيات «السلام» مع عدوهم تخلوا مجاناً ودون مسوّغ عن كثير من أوراق القوة التي كانت بأيديهم.
القيادات العربية إلاّ من رحم ربي لم يتقنوا استثمار الحرب أو السلام، فهم متعجلون في بلوغ الدعة، متمهلون لدرجة الملل في الوصول إلى الأهداف الكبرى، وفي النتيجة لا تصل الشعوب إلى مبتغاها إلا بعد عمر طويل.
إن أيَّة مراجعة لسلوك الدول العربية على صعيد إدارة الصراع مع العدو الصهيوني يتجه المؤشر بالضرورة نحو الأسفل وجهة والأسفل معنى، وبالنتيجة تاهت العربة وضاعت..
لا اعتقد أن البؤس الذي يعم أوضاع الدول العربية في هذا الزمن قد مر مثله في زمن مضى، فالعرب الآن غارقون إمَّا بالفوضى أو الإرهاب، وعدم الأمان أو المديونية والفساد وما يجره من فقر وبطالة وجريمة أو فقدان للاستقلال باحتلال أجزاء من الأرض العربية من قبل جيوش الأجانب، لقد أوصلنا أنفسنا إلى هذا المصير ولم نصله بالصدفة أو بالخطأ وعلينا تحمُّل النتائج والتبعات.
(الرأي)