التأصيل الدستوري لمكانة جلالة الملك السياسية
عبد الكريم محسن ابو دلو
28-07-2021 03:26 PM
تعكس مقابلة جلالة الملك مع شبكة سي إن إن فكرا ملكيا حصيفا في تناول مختلف القضايا الوطنية والإقليمية والدولية، وتعبر عن مدى الحكمة الملكية بالقيادة، وتعزز الإعتدال الهاشمي االذي اتصف الهاشميون به عبر التاريخ. فجالت هذه المقابلة في فضاء دولي معقد، وتعرضت لمطبات سياسية شائكة، ناقشها جلالة الملك برحابة وقدم الحلول الشجاعة وعرض المنهجيات الفاعلة لمعالجتها ببصيرة متقدة، ورؤية مستقبلية، تظهر الخبرة العميقة والمعرفة الكبيرة لجلالته في قيادة شؤون الدولة وإدارة الملفات الدولية.
وينبع هذا أيضا من وحي الفلسفة الهاشمية المتأصلة في جلالته، بحرصه الأكيد على عدالة القضية الفلسطية؛ بوصفها القضية الفاعلة على الأجندة الاردنية، وإبراز الدور العربي المهم على الساحة الدولية. وقد تكرس ذلك جليّـا عندما قابل جلالته الرئيس الامريكي جو بايدن، ممثلا عن قادة المنطقة، وباعتباره أول زعيم عربي يلتقي بالرئيس الأمريكي الجديد.
إن هذه المزايا التي تجلّت في زيارة جلالة الملك الأخيرة إلى الولايات المتحدة الامريكية، وارتسمت في خلاصة السياسة الأردنية التي أعلنها جلالة الملك بمقابلته مع شبكة سي إن إن، تكرس المكانة التاريخية للدولة الأردنية، وأثرها الفعال على الساحة الاقليمية ودورها الدولي في معالجة قضايا المنطقة. فالحنكة الهاشمية والأهمية الاستراتيجية للمملكة تحتم على أي دولة أن تتعامل مع الأردن، بمقدار ما يمتلك من مزايا وخصائص متفردة، تضعف من فرصة أي طرف في تجاهل الدور الأردني أو امكانية تجاوزه. لأن ذلك إن حدث، سيكون على حساب نجاعة حلول القضايا المطروحة، وربما – يزيد تلك القضايا تعقيدا.
لقد مثـّل جلالة الملك في زيارته للولايات المتحدة وفي مقابلته مع شبكة سي إن إن الدولة الأردنية باقتدار وعبر عن سياساتها. باعتبار أن الملك، دستوريا وفق أحكام المادة 30، هو رأس الدولة. كما رسـخ جلالته بمقابلته التلفزيونية، التي لاقت اهتماما عالميا، مبدأً أصيلا بممارسة السياسة في الأنظمة الملكية بقول جلالته إن (السياسة، في النهاية، محصورة بالملك).
إن جلالة الملك، كونه رأس الدولة، هو الجهة المختصة بتمثيل المملكة والتعبير عن سياستها في المحافل الداخلية والخارجية. ويستمد الملك هذه المكانة من أحكام القانون الدولي، إذ تعتبر المادة 7 من معاهدة فيينا لقانون المعاهدات رئيس الدولة ممثلا لدولته بحكم وظيفته، وعليه يعتبر رئيس الدولة هو الشخص الطبيعي الذي يمثل بلاده رسميا بشكل كامل. كما أن أحكام القانون الدبلوماسي، تثبت لرئيس الدولة الحق في توجيه سياسة دولته وإدارتها وقيادة دبلوماسيتها الخارجية، ولا يشاركه في ذلك سوى الجهات الدستورية المختصة وبالقدر المحدد لها وفق أحكام الدستور والقانون، مثل مجلس الوزراء ورئيس الوزراء ووزير الخارجية.
وانطلاقا من هذه المعطيات، يتحدد للملك بصفته رئيس الدولة، مكانة في القانون الدولي تمـدّه بالعديد من الحقوق التي تمكّنه من ممارسة مهامه، منها على سبيل المثال أحكام الحصانة التي تمنحها اتفاقية الأمم المتحدة لحصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائية.
ينعكس أثر هذه المكانة الدولية لجلالة الملك وتـُبنى معالمها بوضوح في أحكام الدستور، التي ترسم ملامح الصفة التمثيلية التي يتمتع بها جلالته ومكانته الدستورية. ينطلق ذلك بدءا من طبيعة نظام الحكم في الأردن المحدد بالمادة الأولى من الدستور أنه نيابي ملكي وراثي، ومن ثم في أحكام المادة 25 التي أناطت السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك وأحكام المادة 26 التي أناطت السلطة التنفيذية بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وأحكام المادة 27 التي نصت بأن تصدر جميع الأحكام من المحاكم وفق القانون باسم الملك. كما بيّـن الدستور حقوق جلالة الملك، إذ أثبت للملك ممارسة المهام الدستورية المتنوعة، منها قيادة شؤون الدولة وإعلان الحرب وعقد الصلح وإبرام المعاهدات والاتفاقات، وغيرها العديد من الصلاحيات الدستورية والقانونية، المدنية والعسكرية، وصيانة الملك من كل تبعة ومسؤولية، مع ما يدلل على ذلك من آثار في القانون الداخلي.
من الواضح، وفق أحكام القانون الدولي وأحكام الدستور، أن الملك بصفته رئيس الدولة هو الشخص المعني في العائلة المالكة بممارسة السياسة، ويحظى بالمكانة الدستورية الأصيلة بتمثيل الدولة والتعبير عن رمزيتها وإدارة ملفاتها الداخلية والخارجية. وأما غيره من أعضاء العائلة المالكة، فإنهم محكومون بالمكانة التي يرسمها لهم جلالة الملك نفسه مثل ولاية العهد ونيابة الملك. كما تتحدد المكانة القانونية لأعضاء الأسرة المالكة وفق أحكام قانون الأسرة المالكة لسنة 1937، الذي يحدد من هم أعضاء الأسرة المالكة وإطلاق لقب الأمير أو الأميرة عليهم، والأحكام التي تنظم شؤونهم، واثبات رئاسة الأسرة المالكة للملك وحقه بالمراقبة عليها.
وقد أشار جلالة الملك إلى دور أعضاء العائلة المالكة بمعرض حديثه عن قضية الفتنة، بأنه بقدر ما يتمتع أعضاء الأسر الملكية من مزايا، إلا أنه بالوقت ذاته تقابلهم محددات، ويتعزز دور أفراد العائلة المالكة غالبا في معالجة القضايا التي تخص المجتمع وتحقيق انجازات فيما يتعلق بالمشاكل الاجتماعية.
لقد كان حديث جلالة الملك مع شبكة سي إن إن وبمحور قضية الفتنة، واضحا ومباشرا، وبشكل من شأنه أن يحقق مصلحة الدولة الأردنية، ويعزز هيبة العائلة الهاشمية المتأصلة في نفوس الأردنيين والعرب، ويحافظ على مكانتها على المستوى الدولي، كونها من الأسر الملكية المستقرة والمعتدلة ذات القيم العالية بين مختلف الأسر الملكية في العالم، بفضل زعامة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه، وحكمة فكره الملكي العميق.
الدستور