لقد تناولنا في المقال السابق مشروعية الاختلاف وعرفناه وفرقنا بينه وبين الخلاف، وقلنا أن الاختلاف إذا اتقنت آدابه وفنه واصوله يؤدي إلى التكامل، وقد أشار القرآن الكريم إلى الاختلاف البشري والاختلاف في مفردات الكون (فاخرجنا به ثمرات مختلفا الوانه).
والاختلاف يؤدي الى بداية الحوار أما الخلاف فيؤدي الى القطيعة، (فليحذر الذين يخالفون عن امره) (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)..
أن هناك فوضى هذه الأيام في الفتوى المتضاربة على امتداد العالم الإسلامي وهي نتاج فوضى فكرية ترتب عليها فوضى أخلاقية واقتصادية واجتماعية وفوضى صراع و تيارات وأفكار، ضغطت على العقول فعمتها عن آداب الاختلاف وأوصلتها إلى الخلاف الذي مرده فكري ومصلحي.
يقول تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم فينبئكم فيما كنتم فيه تختلفون) (واختلاف السنتكم و الوانكم) (هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن)
من اداب الاختلاف العذر بالاجتهاد وهو ناتج عن العذر باختلاف العلماء والرفق في التعامل واحترام الاخر وعدم سوء الظن والموضوعية والتكيف وقبول الاختلاف وعدم اسقاط الاخر اجتماعياً والبعد عن حب الذات وصنمية الفكر والأشخاص.
والبحث عن الحقيقة، وحق ابداء الرأي دون الزام الاخرين باتباعه ان لم يكونوا مؤمنين، وعدم الجهر بالعداوة لمعتقدات الناس، اي إظهار ذلك على أنه الحقيقة.
إن مربعات أدب الاختلاف يمكن أن ندرجها في المربعات التالية، المربع الاخلاقي والاجتماعي والعلمي، وذكرنا في أدب الاختلاف أسس الاختلاف وآدابه الاجتماعية والاخلاقية والعلمية.
لقد اختلف الامام الغزالي مع الفلاسفة، فكتب كتابين مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة.
وقعت خصومة بين محمد بن الحنفية واخيه الحسن بن علي رضي الله عنهما ففضل محمد الحسن على نفسه حيث طلب اليه في رسالة ان يصالحه فقال له: (فيا حسن انت خيرٌ مني انت سيد شباب اهل الجنة وامك خير من امي فانت ابن فاطمة بنت محمد وانا ابن امرأة من بني حنفية، وجدك محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الانبياء وجدي جعفر بن قيس، فابعث الي لتصالحني لتكون انت الافضل في كل شيء) وبمجرد وصول الكتاب الى الحسن بعث اليه وسامحه، وعندما اراد المنصور أن يعتمد كتاب الامام مالك في الحديث، قال له الامام مالك: يا امير المؤمنين لا تفعل فإن الناس ?د سبقت لهم اقاويل وسمعوا احاديث وروايات وان ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وشأنهم وما اختار كل اهل بلدٍ لانفسهم فقال ابو جعفر له لو طاوعتني لفعلت وامرت به.
لقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من الاختلاف.. ابليس مع الله، وفرعون مع موسى، وموسى مع الخضر، ليرينا الحجة والدليل ثم الحكم وهو رب العالمين..
اليوم وفي كثير من الدول وفي الحوار بين الناس اما توافقني الرأي او انت عدوي بل يصل الامر احياناً الى قتل المخالفين وهم معارضوا رأي او سياسة وابسط الاشياء ان يزج بينهم في السجون دون ان تسمع حججهم.
لقد ابتعدنا كثيرا عن ادب الاختلاف واحترام الرأي الأخر ولو كان صواباً فأنت مطلوب منك ان تسمع وتطيع ولا تناقش واذا ناقشت أو خالفت فأنت خارج الدائرة لقد اصبحنا نسمع برجل اسمه (نعم) واخر اسمه (لعم) وأظن هؤلاء مطلوبين أكثر ممن يبدون ارائهم.
(الرأي)