ياسمين تونس .. بين أغلال "التمكين" وأقدام "المستبد العادل"
عريب الرنتاوي
26-07-2021 05:31 PM
فاضت مشاعر المحبة لتونس والتونسيين، على معظم التعليقات التي تناولت التطورات الدراماتيكية التي شهدتها البلاد خلال الساعات الأربع والعشرين الفائتة، وجاءت مشفوعة بمشاعر القلق والتخوف، على انهيار أكثر ثورات الربيع العربي، نجاحاً وسلمية، وأقلها كلفة .. لكن فيض المشاعر هذا، لم يخفِ طوفان الانقسامات حول المسألة التونسية، ودائماً من مواقع إيديولوجية وسياسية متناقضة.
ففيما طغت على ردود أفعال وتعليقات إسلاميين (وحلفائهم) ومحسوبين على محاور وعواصم عربية، مشاعر القلق والغضب والتنديد والاتهامات، عبرت عنها "لطميات" كثيرة واستعادات سريعة لخطاب "الشهادة" و"المظلومية" .. كان فريق آخر، يحتفي بالحدث التونسي، شامتاً ومتربصاً ومتوعداً، لكأني به، يصفي حسابات داخلية، بعيدة عن المسرح التونسي للأحداث، وإذا كان يساريون وقوميون وعلمانيون وليبراليون، هم من بعض مكونات هذا الفريق، مع أن ليس كل من انتمى لهذه المدارس الفكرية، ابتهج بالحدث التونسي، إلا أن ثمة محاور وعواصم عربية، تغذي هذا الفريق، وتنفخ في قربه، امتداداً لنهج استئصالي في النظر إلى "الإسلام السياسي"، ونزعات عدائية متأصلة لثورات الربيع العربي وانتفاضاته.
في ظني أن الحدث التونسي، يستحق مقاربة، متخففة من الانحيازات الفكرية والعقائدية المسبقة، وبعيدة عن إسقاطات الانقسامات الداخلية في المجتمعات العربية، وهنا سنكتفي بتسجيل حفنة من الملاحظات التي قد تساعد على الفهم، مع أن الحدث ما زال في بواكيره، ومن الصعب التكهن بتطوره ومآلاته:
أولى هذه الملاحظات: أن "ثورة الياسمين" نجحت في خلق فضاء حريات وتعددية سياسية وفكرية وتداول سلمي للسلطة عبر صناديق اقتراع، وانتخابات عامة دورية ومنتظمة على امتداد العشرية الأولى للثورة .. لكنها كانت "قصة فشل" في كل ما يتعلق بالبعد الاقتصادي – الاجتماعي – التنموي، حتى أننا لم نر منذ رحيل زين العابدين بن علي، أي منجز "عمراني" يُعتد به في تونس، فيما أحوال البلاد والعباد، كانت تسوء باطّراد، والضائقة الاقتصادية تشتد على الفئات الأكثر هشاشة، وتزيد من وطأتها جائحة صحية، اعتبرها الخبراء، الأسواء في العالم العربي والقارة الأفريقية..فشل الطبقة السياسية الجديدة في تونس على هذه المحاور، لم يعد موضع نقاش، لا في تونس ولا خارجها، وإن كان الاختلاف والتلاوم قد اشتدّ حول من المسؤول وبأي قدر، ومن يتحمّل العبء الأكبر، وكيف يمكن الخروج من الأزمة؟
ثاني هذه الملاحظات: تونس من بين جميع دول الربيع العربي، كانت الساحة التي ستشهد أكثر أشكال الصراع احتداماً بين علمانيين – مدنيين، وإسلاميين - إخوانيين، فالعلمانية متجذرة فيها منذ العهد البورقيبي، وهي تستند إلى أحزاب ومؤسسات ومدارس وطبقة مثقفة وإدارة عامة، فيما الإسلام السياسي في طبعته التونسية، ظل حاضراً في بنية المجتمع، برغم عمليات المطاردة والاستئصال التي تعرض لها في عهود سابقة.. وبرغم محاولات بناء "توافقات وطنية" لضمان الانتقال الديمقراطي، إلا أن النجاح لم يحالفها كل مرة، وانحسرت نجاحاتها على "تقاسم كعكة السلطة" في كثير من الأحيان، فيما أولويات المواطنين، ظلت في الترتيب التالي على سلم أولويات أحزاب تونس ونخبها الحديثة.
ثالث هذه الملاحظات: لا يمكن تصوير ما حصل بوصفه "مؤامرة" على النهضة، حتى وإن كان هناك في تونس أو خارجها، من يضمر أشد العداء للنهضة والإسلام السياسي.. نحن أمام انفجار لحظة متوترة في العلاقات بين مختلف المكونات والتيارات، ولا يمكن الاكتفاء بإعطاء صكوك البراءة لفريق دون آخر، فالنهضة لم تتخل عن موجبات نظرية "التمكين"، والعلمانية – اللائيكية التونسية، كانت شرسة واستئصالية في تعاملها مع الإسلام السياسي.. الأحكام "المُبسّطة" هنا، لا تصمد طويلاً أمام الوقائع.