في ثمانينات القرن الماضي كتب أحدهم في إحدى الصحف مقالًا تحت عنوان " الفئران الملتحية"، انتقد به أصحاب الاتجاه الإسلامي ووصفهم بالفئران، ولم يكتف بذلك، بل نفذ من خلال هذا النقد إلى محاولة المس بالقرآن الكريم ووصفه بأوصاف بشعة، وأذكر أن الدولة قد اتخذت ضده إجراءات صارمة، وسيطرت ومنعت بذلك بوادر فتنة كان من الممكن أن تطل برأسها على مجتمعنا. فكتب والدي -رحمه الله- مقالًا في الرد عليه تحت عنوان "الكلاب الضالة" وابتدأه قائلًا: " أرأيت إلى الجندي يحمل سلاحه ليقذف به وجه عدوه فيتفجر بين يديه فيطاله ويطال أهله والذين قاموا على تعليمه، كذلك كان حال صاحبنا الذي تناول قلمه ليخط به كلمات جاءت بكل هذه الزندقة والإلحاد والانحراف، وكأن تلك الكلمة كانت السدادة التي عندما حركها قلمه فاضت بكل هذه المكاره، وكشفت المستور وأظهرت الحقيقة المرة التي كانت تنطوي عليها عقول وقلوب الكثيرين".
إن الذين يتنمرون على الإسلام اليوم ليسوا مجرمين بمقدار ما هم ضحايا لمناخ ثقافي فاسد منفلت من كل الضوابط التي قد تحول دون تيارات التلوث التي تهب علينا من كل جانب. لقد نبه الكثيرون من المثقفين والعلماء أنه إذا ظهر اليوم الانحراف الفكري في مرافقنا العامة، فإنه حتما سيتحول إلى سلوك مدمر يجتاح مجتمعاتنا، وهذا ما تعاني منه مجتمعات الغرب التي يريد مدعو الثقافة الانفتاح عليها والتعلم منها. وهؤلاء الآن لم يعودوا حالات منفردة، بل أكاد أجزم أنهم حلقات صغيرة في سلسلة طويلة تؤدي إلى ذلك الكهوف المعتمة التي يدفع الجالسون بها بهذه الأفكار لإكمال مشروعهم في تفكيك المجتمعات العربية والإسلامية وسلخها عن وجودها في جزء مهم من المشروع الأكبر نحو تمييع هذه المجتمعات لتكون بلا هوية فكرية حضارية وعقائدية ولا حتى اجتماعية. والمصيبة الأكبر هي أن كثير من أصحاب القرار في بلادنا ينبهرون بهذه النماذج الممسوخة، وعندما يتولون المسؤولية يقدمونها ثم تنقلب عليهم وبالا، لأن هؤلاء أصحاب الفكر الممسوخ لا يراعون أي ضابط من ضوابط احترام الآخر وقيمه، وحتى أنهم لا يعترفون بمن قدمهم الصفوف، بل يتعالون عليهم.
أقول اليوم أنه لا يجب أن ننزل إلى مستوى مناقشة هذه الأدوات الصغيرة في هذا المشروع الكبير، بل علينا التصدي لأصحاب المشروع أنفسهم الذي يخططون في كهوفهم في العواصم العالمية، ويدفعون نحو نجاحه. وللأسف، أدواتهم اليوم من أبناء جلدتنا ويتحدثون بلغتنا ويعيشون بيننا. لقد كان المسلمون في الماضي يتصدون للهجمات القادمة من الخارج على ثقافتهم وحضارتهم وعقيدتهم، ولكن اليوم المعركة أصبحت في الداخل، لأنه كما قلت أصبحت الأدوات صناعة محلية.
إن انفلات هذه القطعان من الكلاب المسعورة على قيمنا الحضارية والفكرية بحاجة إلى وقفة حقيقية لمراجعة وتفعيل المنظومة القانونية تجاههم، كما أنه مطلوب اليوم من المفكرين والمثقفين والعلماء أن ينتبهوا إلى خطورة ما يدبر لمجتمعاتنا وألا يغضوا عيونهم عن الخطر الذي بدا واضحا للجميع في هذه المجتمعات من كثير من أبنائها في التفلت على قيمنا وعقيدتنا وتراثنا، ومحاولة سلخها من جذورها، ومحاورة هؤلاء بعقول منفتحة حتى يعودوا إلى توازنهم الفكري والعقلي قبل فوات الأوان. وإن لم ينجح المعنيون في مهمتهم، فيجب كشف هذه الظاهرة وفضحها في المجتمع لأن حرية الرأي والتعبير لا تعني أبدا الانقضاض على الثوابت الحضارية والثقافية للناس، ولا محاولة التنمر على عقائدهم.
إن ظهور نماذج فكرية ممسوخة على سطح حياتنا الفكرية والثقافية بحاجة أيضا إلى وقفة من أصحاب القرار في ميادين التوجيه والتربية والثقافة لدراسة هذه الظاهرة دراسة جادة، ومعالجة هذا الخطر الداهم بالحكمة والحزم، ولا نقول اليوم إلا ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الشهير: "ما شاد أحد هذا الدين إلا غلبه"..
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.