إن استدارةُ أمريكا وحلفاءها من أفغانستان بكل قَضِّهم وقضيضهم سِرَّاً، وحيرتهم حول من يأخذون من مترجميهم الأفغان ومن عملَ معهم، تماماً كما كانت ڤييتنام، لا تعني أنهم أفلسوا أو انهزموا فِكْراً وسياسةً وجبروتاً مقابل عناد الطالبان الذين حافظوا على ترابطهم وعقيدتهم. فنحن لا ندري إلى أين ستتجه مفاوضات الدوحة بين الأفغان وبمواكبةٍ أمريكية ولكننا نعتقد أن طالبان المنتصرة سَتُذعنُ وتناور للبقاء ليس كحركة منبوذة و لكن كعماد دولة مقبولة. عموماً، إخلاءُ بلدٍ بوزنِ أفغانستان، وهي منذ عام ٢٠٠١ على الأقل صُبِغَتْ بؤرةً لانتشار الإرهاب و لا تزال تحتضن بأراضيها هذا الفكر والممارسة، ليسَ قراراً اعتباطياً ولم يؤخذْ هزيمةً، بل هو قرارٌ أُتُخِذَ لإعادة تموضع القوة العسكرية وتهيئتها للمراحل القادمة.
إن الغرب، وإن التفت لإبعاد أراضيه عن هجمات الإرهاب في السنوات الماضية، لم يرَ منذ أكثر من قرن إلا خطراً بأبعادٍ كونية يأتي من روسيا وتلتها الصين ولليوم فالتركيز الاستراتيجي هو على تثبيت هذا الخطر والتنبؤ به وسَبْقِهِ في التسلح والتقنية والانتشار المُحِّدِ له في الأرض فضاءها الكون الأبعد. وإن الانسحاب من أفغانستان ونقل سلاحٍ ثقيل إلى شرق آسيا أوروبا و الشرق الأوسط وبين دوله والاقتراب الأشبه بالمجازفة من حدود روسيا والصين البرية والبحرية والجوية لهو مزيجٌ من السياسة التحذيرية والاحتوائية لأخطار اشتعال نيرانٍ محلية وسَدِّ أي ثغراتٍ تسمح لروسيا والصين باستثمارها. النيران المحلية ليست مهمة بحد ذاتها إلا بما يعبث بالتوازن الكوني وبعناصر إقليمية بأبعاد كونية.
توقعي أنه سيكون لأفغانستان الجديدة القديمة دورٌ في الخاصرة المتوسطة فإن الهدف الاستراتيجي الغربي على ذلك المستوى الإقليمي هو لتحويل أفغانستان لمركز تخويف لجيرانها وبقاء هؤلاء الجيران منشغلين بها ما يزيد الضغط عليهم في الجوار القريب وفي الأبعد في روسيا والصين، بينما تلتف أمريكا والحلفاء لمسارح عمليات أُخرى وتعطي مسؤولياتٍ ذات معاني كثيرة أشبه ما تكون بالمكافآت أو قل التكليف داخل أفغانستان لدول حليفة مثل تركيا التي يبدو أنها وافقت على تأمين مطار كابول عسكرياً.
أفغانستان على الأغلب ستُحتوَى عن بُعدٍ لاستبعاد تطورات غير مرغوبة وستكون كذلك برقابة جيرانها القلقين وستُبْقَىٰ مجالاً للشد والجذب السياسي الداخلي مع تجاوزاتٍ أمنيةٍ محسوبةٍ حيث للطالبان اليد العُليا. وهُم، أي الطالبان، سيحاولون الظهور بمظهر شريك الحكومة الإيجابي، أو الحكومة ذاتها، وبسياسةٍ مُعلنةٍ وهم مقتنعين أنهم عادوا فعلاً وأنهم على الأقل في هذه المرحلة لا ينوون تصديراً للفكر المتزمت أو الحليف القاعدي الإرهابي، بل سيكون همهم كيف سيبقون في الحكم ريثما يعبرون بأفغانستان لمركز قوة إقليمي. وقد يلتقي الذكاء الأفغاني الطالباني والحكومي مع أهداف الغرب في نقل أفغانستان من دولة صراعات داخلية لدولة استنزاف إقليمي. هنا كل الأطراف تكسب والرعاية الدولية الغربية الحذرة ستستمر طالما تحولت وظيفة أفغانستان الجديدة من اللا استقرار الداخلي لخلخلة الإقليم لحساب الغرب. أفغانستان حبلى بالتوقعات وهي التي كانت عصية على الإتحاد السوفيتي ثم الغرب قد لا ترفض أن تكون دولة تأثير إقليمي وهي تعلم أن عصر غزوها من أي كان لم يعد صالحا بعد اليوم.