توافق الخبراء والباحثون المشاركون في جلسة "السلفيون بين التجربة الحزبية والعمل الدعوي" (ضمن مؤتمر "الإسلاميون بعد عشرة أعوام من الربيع العربي"، الذي يعقده معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع مؤسسة "فريدريش أيبرت")، على أنّ الحالة السلفية تستحق مزيداً من الدراسات والأبحاث والقراءة التحليلية، لأنّها أكثر تركيباً وتعقيداً مقارنةً بالتجارب الإسلامية الأخرى، مثل الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، وغيرهما.
الفرق في أنّ السلفية "مدرسة دينية" في الأساس، تستند إلى منظومةٍ صلبة تقوم على حماية الهوية السنيّة، في بعدها التاريخي (امتداد أهل الحديث)، وصولاً إلى الواقع المعاصر. لذلك لا تختزل في جماعة أو حركة اجتماعية أو دعوية فقط. هي أشبه بالأرخبيل؛ ما بين ثقافة دينية، وجماعات ومجموعات، متنوّعة ومتعدّدة، وفي أحيان كثيرة، متقابلة ومتعارضة في تفصيلاتٍ كثيرة، بخاصة في المواقف السياسية.
ناقش الخبراء، في المؤتمر، آخر التطورات التي حدثت للتيارات السلفية، منذ الربيع العربي، قبل عشرة أعوام، خصوصاً في الأعوام الأخيرة، وإذا كان من الصعب إجمال المشهد السلفي واختزاله في صيغة واحدة أو اتجاه معيّن، إلّا أنّ هناك ملاحظات جديرة بالوقوف، وقواسم مشتركة في حالات عربية عديدة، خصوصاً التي تناولتها الأوراق البحثية، كالحالتين الكويتية والمغربية، ونموذج هيئة تحرير الشام في سورية، فيما تناولت الورقة الخلفية وورقتي صورة عامة عن أبرز ملامح المشهد السياسي عربياً، في الآونة الأخيرة.
وعلى الرغم من أنّ السلفيين دلفوا بقوة إلى المشهد السياسي بعد الربيع العربي، كما فعلوا في تأسيس حزب النور في مصر، وحدث حراكٌ سلفيٌّ غير مسبوق باتجاه العمل الحزبي (كما حدث في تونس واليمن)، فإنّ هناك تجارب سلفية سياسية سابقة، خصوصاً في الكويت، كما يذكر الباحث الكويتي مبارك آل جري، منذ الستينيات من القرن الماضي، وتعزّز في الثمانينيات، إذ شارك السلفيون في تأسيس جمعية إحياء التراث، وفي الانتخابات، استناداً إلى اجتهادات عبد الرحمن عبد الخالق، الذي ناقض، في حينه، جلّ التيار السلفي في الموقف من المشاركة السياسية.
صحيحٌ أنّ هناك اتجاهاً آخر كان يقوده محمد سرور بن نايف زين العابدين، يرفض (هو الآخر) أن يخرج السلفيون من السياسة، لكنّه كان اتجاهاً متأثراً بالفكر القطبي، وكلاهما (الاتجاهان الكويتي والسروري)، أنتجا السلفية الحركية التي تجلّت لاحقاً في الحالة السعودية مع حركة الصحوة (سفر الحوالي وسلمان العودة ورفاقهما).
مع الربيع العربي، انقلب المشهد السلفي رأساً على عقب، وانتقل التأثير والإلهام من السعودية إلى التجربة السلفية المصرية، لكنّ ما بدا أنّه تحول جوهري سلفي تأثر بعد عامين فقط (2013) بما حدث في مصر، وفي سورية واليمن وباقي الدول العربية، فتعرّض السلفيون لمخاضٍ آخر، كان أكثر تأثيراً من الربيع العربي ذاته، وسيُلقي ظلالاً واسعة وعريضة لاحقاً على جلّ التيارات السلفية.
هنا تتداخل العوامل والمتغيرات والتأثيرات وتتعقّد في إعادة تشكيل المشهد السلفي ورسمه؛ وتطغى حالة من السيولة الهائلة بين السلفيات (التقليدية، الجهادية، الحركية) في الدول التي شهدت حروباً داخلية، وتحديداً اليمن وسورية، فيتحوّل أغلب السلفيين إلى العمل المسلّح، تحت راية "أهل السنة" وفي ظلّ تأثير طاغٍ للمسألة الطائفية في هذه البلاد، فلم تعد تميّز في كلتا الدولتين بين سلفي جامي وآخر حركي وثالث جهادي، الجميع يتبنّى موقفاً ضد إيران والأطراف المؤيدة لها، ويدخل السلفيون في معركة "هوية وجودية".
المفارقة أنّه في الوقت الذي انقسم فيه السلفيون تجاه ما حدث في ليبيا ومصر، فإنّ التيار الجاميّ (يؤيد عادة الحكام) توظفه السلطات في مواجهة الإسلاميين الآخرين، فلم يختلف دورهم السياسي (كما يرصد الباحث عبد الوهاب رفيقي من المغرب) في مرحلة ما قبل الربيع عن اليوم، والحال كذلك في الأردن وليبيا واليمن، وبدرجةٍ شبيهةٍ في الكويت، فالديناميكية التي تحكمهم هي مواجهة الإسلاميين الآخرين لصالح الأنظمة والقوى الإقليمية المعادية للإسلام السياسي.
المفارقة الأخرى، كما في ورقتي عن حزب النور المصري، تتمثّل في قدرة السلفيين التقليديين هناك على ردم التناقض بين مواقفهم المتصلبة في مسألة الهوية (ظهرت في المرحلة الأولى من الربيع العربي) مع السلوك البراغماتي الفجّ في مرحلة (ما بعد تدخل الجيش المصري في العام 2013) عندما وقف حزب النور، وأعاد ترسيم موقفه لصالح الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأعلن تأييده في الانتخابات، وقبل الدستور الجديد (ألغى المواد التي دافع عنها السلفيون خلال مرحلة الرئيس الراحل محمد مرسي)، وبرّر ذلك باعتباراتٍ واقعية بحتة، وتأسيساً على قواعد فقهيةٍ راسخةٍ كدرء المفاسد أوْلى من جلب المصالح، وهكذا.
كيف نفسّر هذا السلوك؟ الجواب: أيضاً متوفر، كما جادلت في ورقتي، في الفقه السني الكلاسيكي الذي اتجه أغلبه إلى القبول بحكم المتغلّب، وتفضيل الأمن على الحرية، وهو الفقه العام الذي تعكسه المقولة المتوارثة (المنسوبة للفقه المالكي) "من اشتدّت وطأته وجبت طاعته" أو مقولة "ليلة في ظلّ حاكم ظالم خير من ألف ليلة بلا حاكم". لذلك، لا يرى السلفيون التقليديون والجاميون تناقضاً بين إصرارهم على مواقفهم الهوياتية (في مفهوم الإسلام النقي؛ ومواجهة الطوائف والفرق والأحزاب الأخرى) وقبولهم بالواقع السياسي وتبريره، بل مسايرته، في أحيانٍ كثيرة، وتقديم الشرعية الدينية له!
إلّا أنّ قراءة متمعنة في المشهد العام، مصرياً، أردنياً، مغربياً، كويتياً، تشي بظاهرة التراجع في قوة السلفيين، ففي مصر تراجع حزب النور بين عامي 2011 و2020 في الانتخابات النيابية من 20% إلى 2% فقط. وفي الأردن ضعف حضوره، والحال كذلك (كما يرصد رفيقي) في المغرب، بينما في الدول التي ترتفع فيها وتيرة المسألة الطائفية ما زال السلفيون حاضرين بقوة (كالكويت، والبحرين، واليمن، وسورية). ويبدو أنّ شروط المسألة الطائفية ما زالت ترجّح كفّة الخطاب السلفي، الأكثر وضوحاً وصراحةً واندفاعاً في مواجهة الأطراف الأخرى.
هذه وتلك من التحولات دفعت صلاح الدين الجورشي، من تونس، إلى طرح تساؤل مهم عما إذا كان التراجع السلفي، في مجتمعاتٍ عديدة، مردّه إلى العوامل الذاتية في أوساط السلفية وعلاقتها بمجتمعاتها أم أنّ هنالك متغيراً رئيساً يتمثل في تحوّل الدور السعودي؟ بالضرورة، كلا الأمرين. لكنّ تساؤل الجورشي يقودنا، فعلاً، إلى المتغير السعودي، خصوصاً في الأعوام الأربعة الأخيرة، مع سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إذ مثّلت السعودية، تاريخيا، حاضنة للدعوة السلفية، وساهمت في الداخل والخارج بتزويدها بالمال والدعم، ومن خلال مئات آلاف من العاملين في السعودية وعشرات آلاف من الطلاب العرب المبتعثين هناك، خلال العقود السابقة.
وبواسطة التأثير السعودي في المنظمات الإسلامية والخيرية، شكّلت المملكة السعودية مركزاً عالمياً وإقليمياً لدعم السلفية وتقوية حضورها، ما أدّى إلى تحوّلات ثقافية - مجتمعية جعلت من الثقافة السلفية الأكثر سيادة وانتشاراً في مجتمعات عربية عديدة.
ماذا، إذاً، بعد تحول الدور السعودي، بالتوازي والتزاوج مع السياسات الدولية والإقليمية الجديدة التي تعادي السلفية وتنظر إلى العقيدة والأفكار السلفية بوصفها من مصادر الفكر الجهادي، ما أدّى إلى ظهور اتجاه ملحوظ في السياسات الدولية والعربية يحجّم التأثير السلفي، ويدعم التوجهات الصوفية بوصفها نموذجاً للإسلام المعتدل، بل أكثر قدرةً على مكافحة الإسلام السياسي من السلفيين، حتى بصورتهم التقليدية.
ما زالت، بالضرورة، هنالك سياسات عربية توظف السلفيات الجامية والتقليدية، لكنّ درجة الاعتماد عليها بوصفها الأداة الدينية الوحيدة تراجعت، لصالح الاتجاهات الدولية والإقليمية الجديدة نحو الصوفية، ما يفسّر، مثلاً، مؤتمر الشيشان (2016) الذي عدّ العقيدة الأشعرية التمثيل الشرعي للمجتمعات السُنيّة في مواجهة السلفية.
في خضم هذه العواصف والتحولات، ترى هبة رؤوف عزّت مع هشام جعفر، أنّ هناك ضرورة لإعادة طرح أسئلة مهمة بحثياً وعلمياً لدراسة أكثر عمقاً وتبحّراً وتفكيكاً للحالة السلفية. وترى أمل قرامي، من تونس، أنّ الأسئلة لا بدّ من أن تخرج من الإطار التعميمي إلى السوسيولوجي الدقيق، لدراسة البنية السلفية من الداخل، وتؤيدها هبة عزّت بالتساؤل عن الجيل السلفي الجديد، بخاصة إذا انتبهنا إلى أنّ أغلب المشايخ السلفيين الذين أثروا خلال العقود الماضية في الحالة السلفية عربياً وعالمياً رحلوا، كابن باز، وابن عثيمين، والألباني، وعبد الرحمن عبد الخالق، ومحمد سرور بن نايف زين العابدين، وداعي الإسلام الشهّال، وأخيراً علي الحلبي. ومعروف أنّ هناك حضوراً وتأثيراً كبيراً لهؤلاء المشايخ في وحدة الحالة السلفية في دول عربية كثيرة، ما يفسّر الانشطارات العديدة التي وقعت في أوساط السلفيين التقليديين والحركيين، بعد ذلك.
يبقى السؤال الأخير: هل يمكن أن نستنتج من كلّ ما حدث سابقاً أنّ التيار السلفي، الذي شهد صعوداً هائلاً، بخاصة على الصعيد الثقافي - المجتمعي في العالم، وفي العالم العربي، بدأ عملية تراجع وانحسار؟ ليس المقصود هنا أفولاً، كما تنبأ كثيرون للإسلام السياسي، بل تراجع نسبي، بعدما تسلّفت الثقافات العربية، حتى في أوساط الحركات الإسلامية، ويحضرنا هنا كتاب الراحل حسام تمام "تسلّف الإخوان"!
(معهد السياسة والمجتمع)