لماذا اخفق الحزب الشيوعي السوفيتي ونجح نظيره الصيني؟!
د.أحمد بطاح
18-07-2021 04:44 PM
في عام 1991 انهار الاتحاد السوفيتي الذي كان يقوده الحزب الشيوعي السوفيتي منذ عام 1917 ( أيّ بعد 74 عاماً من الحكم ) وقد شكل سقوطه كقوة عظمى أكبر حدث جيوسياسي في القرن العشرين على حد تعبير الرئيس " بوتين " وقد تساءَل كثير من المؤرخين والمحللين السياسيين بل والناس العاديين بعد هذا الإنهيار الاستراتيجي المريع: هل هذه هي نهاية الشيوعيه كأيديولوجية؟ هل هذه هي نهايه الحزب الشيوعي كحزب أوحد يقود الدولة والمجتمع؟
وفي اليوم الأول من هذا الشهر احتفل الحزب الشيوعي الصيني بمرور مائة عام على تأسيسه ( تأسس في عام 1921 ) مسجلاً أنه يقود ثاني اقتصاد في العالم (الصين الآن هي أكبر دولة مصنِّعة ومصدرة في العالم، وتستحوذ على أكبر احتياطات أجنبية على مستوى العالم، ولديها أعلى خطوط سكك حديدة في العالم، وشيدت أكبر السدود في العالم)، وتملك أكبر قوات مسلحة في العالم. ولعلّ المحلل المتأمل يتساءَل الآن: لماذا أخفق الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كوّن قوى عظمى منافسة للولايات المتحدة، وانتصر في الحرب العالمية الثانية على النازية، وغزا الفضاء (رجل الفضاء السوفيتي " يوري غاغارين " هو أول رائد فضاء في التاريخ)، وطور القنبلة الذرية ثم الهيدروجينية؟ وبالمقابل لماذا نجح الحزب الشيوعي الصيني كل هذا النجاح الباهر الذي جعل الولايات المتحدة تعبر عن قلقها من القوة الصينية علناً وتعتبرها الخطر القادم الذي يجب أن تحسب له ألف حساب؟
إنّ ذلك قد يعود إلى عدة عوامل لعلّ أهمها:
أولاً: التطبيق الجامد (الدوغمائي) للنظرية الشيوعية في الإتحاد السوفياتي حيث لم تجرِ مراجعات حقيقية للأدبيات الماركسية اللينينية في ضوء متطلبات الواقع، وعلى نقيض ذلك قام الحزب الشيوعي الصيني برئاسة " دونغ شياو بينغ " في عام 1978 ( أيّ بعد وفاة ماو تسي تونغ) بتبني سياسة " الإصلاح والانفتاح " والتي عبّرت عنها مقولة " بينغ " الشهيرة ( ليس المهم أن يكون القط أبيض أو أسود: المُهِم أن يصطاد الفئران )، وانطلاقا من هذا الفهم البراجماتي أو العملي للأيديولوجية الشيوعية تمت اصلاحات كثيرة على المستوى الاقتصادي وإلى درجة أن الصينيين يطلقون على شيوعيتهم الآن " الشيوعية ذات الخصائص الصينية "!.
ثانياً: دخول الاتحاد السوفياتي في مواجهات كبيرة ومكلفة مع القوى الغربية المنافسة منذ نشأته إذ ما كاد الحزب ينقل البلاد من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة حتى اضطرّ لمواجهة النازية في الحرب العالمية الثانية ( 1939-1945 ) والتي كلفت الاتحاد السوفياتي ما لا يقل عن 27 مليون مواطن حسب الأحصاءات الرسمية السوفياتية، ثم دخل بعد ذلك في "حرب باردة" ولكنها غير سهلة مع الولايات المتحدة والغرب أدت إلى أن يركز على التقدم في مجال الأسلحة ( لدى روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي من أسلحة ذرية ما يدمر العالم أجمع ). الأمر الذي أدى إلى استنزافه اقتصادياً وعجزه في النهاية عن مجاراة الولايات المتحدة التي استدرجته إلى " حرب النجوم " وغيرها من أشكال الصراع التي لم يعد بإمكانه مجاراة الولايات المتحدة والغرب بها وبالذات من الناحية الاقتصادية.
ثالثاً: عدم التجديد في دماء الحزب الشيوعي السوفياتي بصورة مؤسساتية منظمة تعكس تداول معقول للسلطة، والسماح لقيادات شابة بتولي زمام القيادة، فبعد أن توفي " لينين " فيلسوف الحزب وقائده بعد سبع سنوات من تولي الحزب السلطة تسلم " ستالين " قيادة الحزب والدولة لمدة تقارب الثلاثين سنة ثم جاء "خروشوف" الذي حكم بطريقة دراماتيكية لمدة تقارب عشر سنوات شجب فيها ستالين وتنصل واقعياً من إرث الحزب ليخلفه "بريجنيف" ولمده ثلاثين سنة تقريباً، أما في الصين فبعد أن توفي " ماو تسي تونغ " مؤسس الحزب وقائدة في عام 1976 فقد توالت قيادات عديدة ولمدد محددة ( أُلغيت مدة بقاء زعيم الحزب في عهد رئيس الحزب الحالي شي جين بينغ ) دللّ من خلالها الحزب على رغبته في تداول السلطة، وعلى احترامه بل وتقديره لميراث الحزب وزعيمه "ماو" وبرغم ما حدث من تجاوزات في الثورة الثقافية وغيرها.
رابعاً: عدم انسجام الشعب السوفياتي من حيث الديانة، والعرق، والخلفية التاريخية، فقد تكون الاتحاد السوفياتي من خمسة عشر جمهورية (تشغل أكثر من 17 مليون كم2)، تضم أدياناً عديدة (مسيحية ارثوذكسية، إسلام ....) وأعراقاً كثيرة (سلاف، قوقاز، تتر) وفي قارتين ( أسيا و أوروبا )، ولم يكن من السهل على الحزب أن يصهرها جميعاً في بوتقة واحدة، أما في الصين فأكثر من 94% من الشعب الصيني يعود إلى عرقية " الهان " وأغلبيته يعتقد بمبادئ " كونفوشيوس " و" بوذا " وملايين عديدة فقط تدين بالمسيحية، أو بالإسلام ( الايغور )، ولذا فلم يكن صعباً على الحزب الشيوعي الصيني أن يعمل في حاضنة اجتماعية موحدة ومتماسكة وعايشت دور الحزب في نقل الصين من بلد يعاني من حروب أهلية تتناهشه القوى الاستعمارية (قبل تأسيس جمهورية الصين الشعبية على يد الحزب في عام 1949) إلى بلد ناهض قوي فجر القنبلة النووية، وانضم إلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وغزا الفضاء، وأصبح مصنع العالم بجدارة!
خامساً: فشل الحزب الشيوعي السوفياتي في تأسيس أحزاب مساندة له وذات قاعدة شعبيه حقيقية في أوروبا الشرقية التي شكلت معه بعد الحرب العالمة الثانية حلف "وارسو" ( مقابل حلف الاطلسي الغربي ). لقد سيطر الاتحاد السوفياتي على دول أوروبا الشرقية ( بولندا، رومانيا، يوغسلافيا، هنغاريا، ....) في الحرب العالمية الثانية وشجع أحزابها الشيوعية إلى درجة تسلم السلطة ولكّن هذه الاحزاب لم تجذر نفسها في الأوساط الجماهيرية ولم تنجح في كسب عقول وقلوب شعوبها ولذا تهاوت بسرعة بعد إنهيار الاتحاد السوفياتي، أما الصين فلم تتوسع خارج حدودها ( تفتخر دائماً بأنها لم يسبق لها أن احتلت أي بلد في العالم )، ولم يُعنَ الحزب الشيوعي الصيني بالتمدد في الدول الأخرى وعليه فقد دفع الحزب الشيوعي السوفياتي ثمن تمدده غير الموفق خارج حدوده، وبالمقابل لم يدفع الحزب الشيوعي الصيني أيّ ثمن لأنهُ لم يحاول الخروج من بلاده أو من " مملكة السماء " كما دأبَّ الصينييون على تسميتها!