يقول المفكر العربي أمين معلوف: "لاحظ المؤرخون وعلماء الإجتماع الذين انكبوا على دراسة المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة إلى أي مدى تدهورت فيه صورة العربي وثقافته. وأفضل ما يختصر هذا الموقف الإزدرائي أن العمل غير المُتْقَن يُشار إليه عادة بعبارة «شغل عرب»." (1)
لعلني لا أغالي إذا ما قلت أن أحد الأسباب الرئيسية لتدهورنا الحضاري كعرب هو أننا لا نتقن عملنا اليومي حتى صار العدو الصهيوني يضرب بنا المثل إذا ما رأى عملا جودته متدنية فيقول: "شغل عرب".
نحن نشجب وندين ونستنكر إذا ما رأينا بعض السفراء العرب في مأدبة إفطار دعاهم إليها العدو الصهيوني، لكن أليس الأجدر بنا أن نجلد ذواتنا التي لا تحسن أداء العمل المطلوب منا سواء كان ذلك في القطاع العام أم الخاص؟ والسؤال هنا على وجه العموم ليس مطلقا.
إذا كنا لا نلتزم بالحضور قبل موعد بداية الدوام الرسمي، ونغادر خلسة قبل ميقات نهايته، ونزوِّر توقيع ساعة الحضور ما دامت البصمات الإلكترونية موقوفة عن العمل هذه الأيام بسبب الإجراءات الإحترازية للوقاية من جائحة الكورونا، ونقصِّر في أداء الواجبات الموكولة إلينا بداعي الملل تارة، وطمعا بالرشوة طورا، ومناكفة بالمواطن حينا؛ وجهلا بأصول العمل حينا آخر حيث تولينا هذا المنصب أو ذاك بالوساطة والمحسوبية.
أليس المفروض بنا أن نعمل جاهدين على إنجاز أعمالنا على أكمل وجه؟ وإذا أخطأنا -ومن لا يعمل لا يخطئ- أن نصحح أخطاءنا؟ وإذا تمكنا من أداء اعمالنا بشكل جيد أن نرتقي بالأداء إلى مستوى جيد جدا فممتاز فمتفوق بالتعلم والتثقف والبحث والدراسة؟
يقول المصطفى: "إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه"، وابن مريم ضرب مثل الوزنات الثلاث كي يغرس في نفس الإنسان قيمة جوهرية قوامها إستغلال كل قدراته وإمكانياته وطاقاته في إنجاز العمل المطلوب منه.
لو أن كل صناعي -نجارا كان أم حدادا أم فني ألمنيوم أم فني ميكانيك ومن يناظرهم- يقوم بعمله بأمانة كما لو أنه يفعلها لنفسه لارتقت صناعتنا أعلى مستويات الرقي، ولازداد دخل صناعيينا أكثر من أي وقت مضى كما يحدوني التخمين لا اليقين. ولو أن كل تاجر يبيع زبائنه على مبدأ "الزبون دائما على حق" لتضاعفت مبيعاته أضعافا مضاعفة، أكاد أجزم. ولو أن كل مزارع يزرع بضمير حي بدون هرمونات لما فضلنا المنتجات الزراعية المستوردة على منتجاتنا المحلية كما تميل بي التوقعات.
هل تراني صوتا صارخا في البرية؟ أدعو للمثل العليا والقيم السامية ولا من مجيب؟ أطالب الناس بما يخالف طبيعتهم البشرية فيضحكون علي؟ لربما، وليضحكوا؛ "فالنبيه من يضحك أخيرا" لكن مع هذا، تجدني أدعو كل مواطن إلى «الأمانة» في عمله، لأننا لو سرنا على هذا النهج لخلقنا «الثقة» بين أنفسنا في أغلب ظني، ولازدهرت أعمالنا على منوال ما كانت عليه حال التاجر الذي التقى به عالم الإجتماع العربي د.علي الوردي في إحدى الدول الغربية.
يقول د. علي الوردي: "رأيت ذات يوم تاجرا يبيع السجادة في إحدى المدن الغربية. وكان ناجحا في تجارته إلى أبعد الحدود. فسألته عن سبب نجاحه فأجاب: «إني لا أبيع السجاد لأحد إلا بعد أن أبيعها لنفسي»." (2)
لعلني لا أخطئ القول أن جواب التاجر أعلاه يعيد بكلمات أخرى صياغة الحكمة التي جاء بها بوذا قبل آلاف السنين حينما قال: "عاملوا الناس بمثل ما تريدون أن يعاملوكم"، وكان ابن مريم قد رددها أثناء بشارته في فلسطين؛ وكررها المصطفى بصيغة أخرى: "لا يؤمن المسلم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أو كما قال.
في غربي النهر عدو إمبريالي إغتصابي إحلالي لا يعترف بمعيار أخلاقي في التعامل معنا غير معيار «القوة» على كافة الصعد، وعلى رأسها: العمل.
فكفانا جعجعة بلا طحن! كفانا قولا وكلاما لا يغنيان ولا يسمنان من جوع! كفانا تغريدات طنانة ووسومات رنانة! وآن أوان الفعل والممارسة! وأول خطوة في رحلة تحرير الأرض العربية المُحْتَلَّة تبدأ من تكريس جل طاقاتنا وقدراتنا وإمكانياتنا في سبيل الإرتقاء بوظائفنا ومهننا وأشغالنا واضعين نصب أعيننا «الأمانة» في الأداء و«الإخلاص» في العمل. ولعلني لا أجانب الصواب إذا ما قلت أن «القوة» في العمل تنبع من «الإخلاص» له.
كان الروائي العربي يوسف إدريس يبحث في أسرار قفزة اليابان العملاقة في مختلف المجالات. وفي إحدى المرات، وبينما كان عائدا إلى الفندق وقد انتصف الليل، رأى عاملا يابانيا يعمل وحده بكد دون رقيب أو حسيب. عرف إدريس حينئذ أحد الأسباب التي تقف وراء إزدهار اليابان وتطورها، إذ يقول مخاطبا المفكر الياباني نوبوأكي نوتوهارا: "فوقفت أراقبه لم يكن معه أحد. ولم يكن يراقبه أحد، ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو أن العمل ملكه هو نفسه. عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان، وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر. عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل، فإن ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان". (3) وفي هذا السياق، لا أجد مندوحة من استحضار المثل الياباني الذي يقول: العمل نصف العبادة.
فهل نعمل "كما لو أن العمل ملكنا نحن أنفسنا" فتزداد قوة العمل لدينا حتى نتفوق على أنفسنا أولا ومن ثم على العدو الصهيوني أم نظل نغني مع جوليا بطرس "وين الملايين" وشغلنا "شغل عرب"؟
هوامش المقال:
(1) كتاب (غرق الحضارات) لمؤلفه أمين معلوف، ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي، الطبعة الأولى، أيلول (2019) م، ص(83)
(2) كتاب (أسطورة الأدب الرفيع)، لمؤلفه د.علي الوردي، شركة دار الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الثالثة (2015)، ص(14)
(3) كتاب (العرب: وجهة نظر يابانية)، لمؤلفه نوبوأكي نوتوهارا، منشورات الجمل، الطبعة الأولى (2003)، ص(42)