تقليدياً، وعلى نحو عام، انطلق التفكير البشري من مبدأ التّضاد: صح - خطأ، خير-شر، مفيد-ضار، أبيض-أسود، نعم-لا، إلخ.
وانطلاقاً من هذا النمط من التفكير، بنى معظم الناس آراءهم ومواقفهم اليومية على أحكام مطلقة، سواء بالسلب أو الإيجاب، فعُرف ما يسمى بالثنائيات المتضادة التي تحكم بنى التفكير البشري، والعديد من ممارسات الأفراد وعاداتهم وتقاليدهم.
وعبر العصور المختلفة، تحدى بعض الفلاسفة والمفكرين هذا النمط من التفكير، لكن التحدي الأكبر أتى بدءاً من منتصف القرن العشرين عندما ظهرت المدرسة التفكيكية والتي هي جزء لا يتجزأ من حركة ما بعد الحداثة.
هاجم التفكير التفكيكي وفكر ما بعد الحداثة مبدأ التضاد الحاد هذا، مُبيّنان أنه مبني على افتراض خاطئ في معظم جوانبه، وأن العديد من «الحقائق» والآراء الصائبة والأفكار الخلاقة تبرز نتيجة للتداخل لا التضاد وتكمن في البينيّات، لا في الفصل الحاد بين المكونات.
هنالك بمعنى آخر الكثير من الأفكار والمواقف والآراء و"الحقائق» التي لا تنطبق عليها ثنائيات الصح والخطأ، والخير والشر، والمفيد والضار، وغيرها.
لا بل إن إبداع الشعوب وقوة ثقافاتها أخذا يظهران في العقود القليلة الماضية عندما تخلّصت من سطوة أنماط التفكير والسلوك المبنية على مبدأ التضاد، واستثمرت في التفكير البيني الذي يستكشف مساحات مهمة تم تجاوزها بسبب السطوة غير المحمودة هذه.
هذا وقد بانت العديد من المعارف والعلوم المهمة بسبب سبر غور البينيات والتخلص من هيمنة طرق التفكير والبحث والتنفيذ المؤسس على الثنائيات.
ونرى تجليات مثل هذه المعارف في فن العمارة والتخطيط الحضري والرواية والشعر والمسرح وعلم الفضاء والهندسة والفيزياء وعلم الاجتماع وغيرها من علوم وتطبيقات ساهمت في إحداث نقلة نوعية في الحضارة الإنسانية.
والعديد من الدول والثقافات التي تقدمت تحقق لهذا ذلك بسبب هذه النقلة في طرائق التفكير البينية، وما تمخض عنها من ريادة وابتكار وإبداع.
بالمقابل، أحد أهم الإشكالات في مجتمعاتنا يكمن في أنها ما زالت تُعلي من شأن تفكير التضاد البائد، الذي يُقيدنا ويحد من انطلاقتنا ويبقينا أسرى لأنماط تفكير عفا عليها الزمن، لا ينجم عنها سوى حلقات مفرغة ندور فيها وعزلة عمّا يجري حولنا.
ويتجلى تفكير التضاد هذا عندنا، وما يتمخض عنه من عموميات جارفة خادعة خاطئة نروج لها على نحو مبالغ فيه، في خطابنا المحكي والمكتوب في شتى العلوم وفي كل ميادين المعرفة وفي جميع مواقفنا الحياتية.
فنجده في السياسة، مثلما نجده في الاقتصاد، وعند الحديث عن أي موضوع، خاص أو عام.
والخطورة في مثل هذا النمط من التفكير تكمن ليس في أنه يشدنا إلى الخلف فحسب، أو يبقينا في مكاننا على أحسن تقدير، بل في أنه يُدخلنا في جدالات عبثية إشكالية تضرنا ولا تفيدنا وفي خلافات تُفرقنا ولا تجمعنا.
وهذا، من ضمن أسباب أخرى، يُعلل تأخرنا عن الركب وهامشية مكاننا مقارنة بالآخرين.
آن الأوان لنُعلي من شأن تفكير التداخل والرؤى البينية على حساب التضاد والثنائيات البائدة التي تخطّاها العلم منذ أكثر من نصف قرن.
(الرأي)