كان مؤسس علم الاجتماع المفكر العربي العميق «ابن خلدون» ينفي أثر الحتمية الجغرافية على النشاط السكاني (العمران)، ويعتبر أن الجغرافيا ليست الأثر الوحيد فيه، بل هو نشاط مترابط متفاعل متشارك وليس نشاطا فرديا مقطوع السياق ومعزولا عما حوله، ونتاج هذا التفاعل هو العمران بصورته المادية، وهو البناء التحتي للمجتمع الذي يفضي الى تكوين نفسي ثقافي يسهم في بناء الهوية، وهو البناء الفوقي للمجتمع.
وها نحن اليوم نقارن: كيف فهم ابن خلدون عصره؟ وكيف يفهم المفكر العربي عصره؟ اذ أن الفهم الخلدوني للعصر يؤسس لمنهجية كيفية فهم العصر الذي نعيش، في ضوء معطيات الربط الجدلي بين عوامل وعناصر متفاعلة أركانها الجغرافيا والاقتصاد والسياسة واللغة والدين والتاريخ، ومحصلة تفاعلها التنمية ببعدها الحضاري وتأثيراتها على الانسان.
وبذلك فان فهم العصر الذي نعيش يعتمد على فهم تناقضاته التي تبدأ بالاستعمار فالتبعية فالعولمة، في الاطار الخارجي، وبالتعصب والتشرد والانغلاق وغياب الموضوعية في الاطارالداخلي، هذا على الصعيد الثقافي، أما الصعيد السياسي فيتراوح بين الأصولي واليساري والقومي، الأمر الذي أوجد تحديين رئيسيين هما الأمن القومي والتنمية. وغني عن القول إن العلاقة بين الداخلي والخارجي، هي أحد أشكال العلاقة بين الذاتي والموضوعي وجملة تلك التناقضات.
إن الفعل الانساني في توقه الى الأفضل وصراع القديم والجديد، هو جوهر حركة التاريخ، وأن عدم ولوج عصر التحديث يؤدي الى الجمود وسيادة الفكر المحافظ وما يحدثه من اعاقة للمجتمع، وأن جدل العلاقة بين الجديد والقديم هو تناقض ذو طبيعه صراعية، تقوم على الحركة لا على الثبات، فان علاقة الجدل بين الجديد والقديم هو التناقض بين الفكر المحافظ والتقدم، بين محاولات الفكر المحافظ بالرجوع الى الخلف، وهذه هي رجعيته وبين الجديد وتقدميته. ومن هنا تنبع العلاقة الصراعية بينهما.
ثمة ثنائيات متضادة يواجهها الأفراد والأوطان سواء بسواء في نضالهم ضد هذه الثنائيات، فالوحدة حتمية ولكنها مستحيلة، والحرية مطلوبة ولكنها محاصرة، والتنمية منشودة ولكنها لا تصل الى غايتها، والعدالة معلنة ولكن الظلم فادح، والديمقراطية مؤسسة ولكنها غير مطبقة، والحوار منشود ولكن الإصغاء معدوم، والصوت يعلو بدون معيار، والأغلبية صامتة بدون تفكير متقاعسة عن النطق بالحق. وهذا اشبه ما يكون بثنائية ميكانيكية تطفو على سطح الأشياء والظواهر ولا تمتلك القدرة على النفاذ الى الترابطات الجدلية لتلك الثنائيات المتناقضة، ولا الى تلافي تلك الثنائيات.
ان التربية والتنشئة الاجتماعية في الأسرة والمدرسة والجامعة لا بد أنها ستغير ما هو كائن الى ما ينبغي أن يكون، حيث ستسود الوحدة بدل التجزئة، والانعتاق بدل التبعية، والتحرير بدل الاحتلال، والانتصار بدل الهزيمة، والتقدم بدل التخلف، والشفافية بدل التضليل، والانفتاح بدل الانغلاق، والاستثمار بدل الاستهلاك، والتوفير بدل التبذير، والوضوح والاستقامة بدل النفاق والكذب والمواربة، وهكذا وصولا الى الحياة الأفضل التي يسعى اليها الانسان والوطن.
(الرأي)