في الماضي القريب كانت أغلب الحروب التي تقع بين الدُول مباشرة , أي أنّ الدُول التي تختلف فيما بينها تكوّن تحالفات أو تقوم مُنفردة بالهجوم العسكري ضد بعضها البعض إنْ كان برّاً , جوّاً , أو حتى بحراً ...
أمّا الآن و في عصر الأوبئة و المتحوّرات التي نعيشها حاليّاً فقد تغيّرت ملامح الحروب , فنادراً ما نقرأ خبراً عن دولة تقتحم حدود دولة أخرى و تهمّ بالقتال , فحتى تفاصيل المواجهات و المشاحنات بين القوى أصبحت تأخذ قنواتٍ أخرى , فالآن الدولة القوية و التي تعلن الحرب الغير مباشرة هي تلك التي تتحكّم بشرايين حياة الدول الاخرى , إن كانت تلك الشرايين لها انعكاسات على الامن الغذائي , الحدودي, أو حتى الامن المائي , و هذا الاخير الذي نشهده هذه الايام تحديداً و كأنّنا نعيش فترة الحروب المائية بإمتياز ...
لنبدأ بملف سدّ النهضة الذي عندما نقرأ عنهُ لاوّل مرّة بلا تركيز سنظنّ لوهلة بأنّ الجمهورية المصرية تقف ضد نهضة و تطوّر دولة المصب اثيوبيا هادمةً بذلك احلام اديس ابابا بتطور كهربائي يعود على البلاد بمنافع اقتصادية كبيرة , لكن ما إن تحلّل حيثيّات هذا الملف حتى نلتمس بسهولة الخطأ الكبير الذي يعاند على صِحّته الجانب الاثيوبي في سدّ ينقصهُ ابسط معايير السلامة و الآمان , زدّ على ذلك عدم تقيّد بالكميّات التي ستصل لمرحلة ينهار السدّ بأكمله جرّاء تخطّيها , هذا الموقف الذي لم يُبنى على أسس تفاهمية و تشاركية بين دول النيل يُشير ببساطة لاعلان حربٍ مائية تحت الطاولة تتستّر تحت غطاء النهضة و التطوير , فلو جلست اثيوبيا برفقة مصر و السودان على طاولة الحِوار و التفاهم على بنود تنفع الجميع و لا تضرّ طرف على حساب الآخر سيمرّ المشروع مرور النجاح كأيّ مشروع تنموي أقيم في هذا العالم , لكن التعنّت و عدم المبالاة يشير بما لا يدع للشكّ مكاناً بأنّ السياسة لها يد خفية في هذه القضية , و الهدف التنموي يتفرّع منهُ اهداف تحجيميّة أخرى ...
أمّا الملف التركي _ السوري _ العراقي المائي فهو استكمالٌ للملف الاثيوبي لكن باختلاف الجغرافيا و الابعاد المُدعّمة باحلام تاريخية , فالجانب التركي الذي لا يستطيع أحد انكار تقدّمه السريع لا يزال للاسف يرى المشهد من زاوية عثمانية , فالحلم السلطاني لا يزال يسيطر على زمام الامور رامياً بعطش الشعوب و حقوقها في الامن المائي عُرض الحائط , فسوريا و العراق بلدان لا تحتمل ظروفهم عبئاً مائياً مُضاعفاً في وقت تشهد الكرة الارضية فيه انقالابات مُناخية ساحقةً تصبح الخمسين مئوية فيه رقماً طبيعياً لا تفاجئ منهُ ...
إذن الحروب المائية هي ورقة الضغط الآن على طاولة السياسة في شرقنا الاوسطي المُتهالك ,فمن يمتلك الاكتفاء الذاتي المائي و الغذائي الآن أصبح من أقوى الدول مهما كان تصنيف جيشه أو تعداده ...