المضافات العشائرية ودورها في الحياة السياسية والإجتماعية
م. أشرف غسان مقطش
14-07-2021 03:11 PM
في منتصف السبعينيات من القرن العشرين أطلق المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) ومقره العاصمة الفرنسية باريس برنامجا طرح من خلاله عدة نقاط على طاولة البحث العلمي تدور موضوعاتها حول النمو الحضري. وقد شارك في برنامج المركز باحثون ودارسون انضوى بعضهم تحت لواء فريق واحد يشرف عليه المستشرق الفرنسي دومينيك شفالييه.
وكان فريق شفالييه قد انتقى الموضوعين التاليين من مواضيع البرنامج المطروحة ليكونا محوري أبحاثه ودراساته:
1) "تحليل الآليات الإقتصادية والإجتماعية التي تقود أشكال تنظيم الفضاء (الأمكنة)"
2) "العلاقات بين المدن والريف في دول العالم الثالث وفي البلاد النامية المتجهة للتصنيع" (1)
يقول دومينيك شفالييه: "كانت رؤيتي الخاصة قد ارتكزت على عدد من الملاحظات:
تقولب التنظيم الحضري في البلدان العربية مع بنية الجسد الإجتماعي وحياة هذا الجسد. فيقوم هذا التنظيم أولا على تهيئة الفضاء الذي يعبر عن شكل وعلاقات وحاجات المجموعات الأسرية والقبلية {المنطوية على نفسها}، أو المتكدسة جنبا إلى جنب، أو المتجاورة والمتدرجة. والصورة التي تدل على ذلك هي مخطط المسكن: بيت {منطو على نفسه}، مفتوح على فناء مركزي مربع الشكل، منسق بحيث يمكن عزل الأسرة والنساء، مع اتاحة استقبال الجار والغريب". (2)
حتى بيوتنا درسها الغرب! بحثوا في الصلة بين تصميم منازلنا "الفضاء" وبين عاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا "بنية الجسد الإجتماعي وحياة هذا الجسد"؛ فوجدوا أن شكل البيت الذي نعيش فيه هو انعكاس لعاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا "شكل وعلاقات وحاجات المجموعات الأسرية والقبلية {المنطوية على نفسها}". وما وجدوه في مساكننا، كانوا قد وجدوه في المساجد وأسواق الخان.
وبحسب شفالييه، لم يتجاهل الغرب دور "الضغوط المناخية والجغرافية، والظروف الإقتصادية، وتنوع الأشكال والأحجام والأبعاد" في تصميم الأبنية إن كانت مسكنا أو مسجدا أو سوقا، لكنه لاحظ "أن الثقافة تتجسد في هذا الإسقاط لبنية الأسر العربية وأنماط تجمعها [أي "بنية الجسد الإجتماعي وحياة هذا الجسد" على حد تعبيره] على الفضاء [المسكن أو المسجد أو السوق]". (3)
فهل يا ترى تتجسد الثقافة الأردنية في إسقاط بنية الأسر والعشائر الأردنية على المضافة كنموذج من نماذج الفضاء؟
تكثر المضافات العشائرية في الاردن من الهضبة إلى العقبة، ولأخذ انطباع سريع عن حجم الدور الذي تلعبه المضافة في الحياة الإجتماعية والسياسية وحتى الإقتصادية والفكرية والثقافية، يكفي ان أشير إشارة عابرة هنا إلى أن أعدادها تزيد أضعافا عن أعداد مقرات الأحزاب. والحق أنه لا تتوافر لدي احصائية حتى الآن لأقارن من خلالها أعداد المضافات بأعداد المراكز الثقافية والفكرية ومؤسسسات الأبحاث العلمية والإقتصادية والإجتماعية.
ومع هذا، تشكل المضافة العشائرية جزءا بالغ الأهمية من منظومة البناء الأردني بشقوقه الثلاث: الرسمي والشعبي، والوسيط بينهما: المدني. ففي المضافات تُقام الأفراح، وتُفتح دور العزاء، وتُتخذ القرارات المصيرية للعشيرة، ويتم الصلح العشائري بينها وبين أية عشيرة أخرى إن حدثت مشاكل أو خلافات بين عشيرتين أو أكثر، وإن وقعت جريمة بحق أحد أبناء عشيرة على يد فرد من أفراد عشيرة أخرى، ولاحقا ستلعب هذه المضافات دورا رئيسيا في تحديد مرشح العشيرة للإنتخابات النيابية والبلدية، وفيما بعد اللامركزية.
هذا وقد ذكرت (موسوعة المعارف الأردنية، محافظة عجلون) أن الأحزاب، وبعد حظر نشاطها عام (1957) م، كانت في "بعض الأحيان {تستغل} المساجد والدواوين و{المضافات} وكثير من المؤسسات" ل "تمارس [فيها] أنشطتها" (4). ولست أدري ما الفرق بين "الدواوين" و"المضافات" برأي الموسوعة إن كان هناك فرق واحد على الأقل. لكن ما يهمنا هنا أن المضافة كانت ميدانا "تستغله" الأحزاب لتقيم فيه فعالياتها ونشاطاتها التي قد تتضمن المهرجانات الخطابية حيث يقول فيها "الخطباء" و"الشعراء" ما لا يفعلون على الأغلب.
وتاريخيا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لعبت مضافة الشيخ سليمان السودي زعيم عشيرة الروسان في قرية سما-الروسان القريبة من الحدود الأردنية- السورية دورا رئيسيا في مقاومة الإحتلال الفرنسي لسوريا في العشرينيات من القرن العشرين، حيث كانت المضافة تحتضن اجتماعات الثوار لاتخاذ القرارات المناسبة فيما يستجد على ساحات القتال وفي ساعات النضال. هذا وكان حاكم مقاطعة إربد آنذاك الزعيم الوطني علي خلقي الشرايري يحرص على حضور تلكم الإجتماعات كلما أمكن له الحال.(5)
وأغلب المضافات هذه الأيام، عبارة عن بناء اسمنتي على هيئة قاعة كبيرة تتخذ شكل مستطيل عادة، توضع على محيط القاعة من الداخل كراسي أو قل مقاعد، وتتوسط القاعة هذه صفوف من الكراسي أيضا في حال زادت أعداد الحضور عن أعداد الكراسي المحيطية. والقاعة هذه مفتوحة بعضها على بعض، لا حواجز ولا سواتر في حال كان الإجتماع يضم فقط الرجال من أبناء العشيرة، وإذا تم اجتماع ما لا بد من حضور النساء فيه؛ فقد تقام حواجز ستائرية بين الجزء المخصص للرجال، والجزء المخصص للنساء، وقد لا تقام؛ فالأمر مرهون بمدى تمسك العشيرة بالعادات والتقاليد من جهة، وشدة إلتزام العشيرة بتعاليم الدين الإسلامي من جهة أخرى. أما في مضافات العشائر المسيحية؛ فأمر إقامة الحواجز الستائرية من عدمه مرتبط بمدى تمسك العشيرة بالعادات والتقاليد.
إن بعض هذه العادات والتقاليد موروثة عن البداوة. فالبدو كانوا يقطنون في خيم أينما حلوا وحيثما ارتحلوا. والخيمة جزءان: الشق للرجال، والمحرم للنساء يفصل بينهما القاطع حيث كان الشيخ (خلف) يعلق عليه كيس بن وجلد غزال يحتفظ فيه بحب الهال. والشيخ (خلف) هو زعيم عشيرة الشيران البدوية التي جرت في مضاربها بعض أحداث رواية (الوشاح الأحمر). ومن الجدير بالذكر هنا أن الجانب الأمامي لخيمة البدوي مفتوح دائما. ولعل ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا بإحدى الصفات التي يمتاز بها البدو وهي استقبال الضيف بصدور رحبة وقلوب مشرعة أبوابها سواء كان هذا الضيف زائرا أم عابر سبيل أم مستغيثا أم دخيلا أم لاجئا. (6)
من جهة أخرى، لعلني لا أغالي إذا ما قلت بأن المضافات العشائرية تلعب دورا سلبيا كبيرا في عزوف الشباب الأردني عن المشاركة في الحياة الحزبية؛ فهي تذكره دائما مذ كان طفلا أو مراهقا يرافق والده إلى إجتماعات العشيرة بأن ولاءه يجب أن يكون للعشيرة أولا وأخيرا. وهي تغرس في أعماق نفسه القيم العشائرية التي تتبلور حولها حياته تدريجيا بالتزامن مع النمو الجسدي والروحي له وما يرافقه ذلك من تشكيل إطار فكري له يجعله ينظر من خلاله نحو العالم بقية عمره نظرة عشائرية بما تحمله تلك النظرة من تعصب للعشيرة تترجم إلى فعل حين يدلي بصوته في أية انتخابات لابن عشيرته مفضلا إياه على أي مرشح آخر له من الكفاءة والمقدرة ما تجعلانه الأجدر بالمقعد النيابي من ابن عشيرته.
سأل الباحث الأنثروبولوجي أحمد أبو خليل أحد الذين يجري متابعة لحالته في إطار دراسته حول الفقر في الأردن فيما إذا كان قد انتخب النائب قريبه أم لا، أجابه منير: "طبعا، قرابتي [أي: قريبي] والصوت أمانة! ولذلك علي أن أعطيه لقرابتي!"(7) طاط!
ولما طالب (الشيخ عودة) بالبحث "عن رجل حكيم يوحد القوم [العرب] ويجمعهم بوجه الخطر [المحدق بفلسطين].."(8)، كان (أبو سليم) ذو الأصول الشامية المقيم في شرقي الأردن يشخص بكل مهارة وشطارة واقع حال العرب بطرحه مثالا حيا لربما استقاه من ثنايا المجتمع الأردني حينما أجابه: "وحب الزعامة وين يروح يا شيخ عودة ..{كل عشيرة لها حزب} .. والإنجليز بتتفرج شمتانة .. واليهود مثل الأفعى بتلسع عن يمين وشمال ..".(8)
والطفل أو المراهق حين ينظر حوله في قاعة المضافة وقد وجدها عامرة بالرجال فقط في أغلب اجتماعات العشيرة؛ فإنه سينشأ على فكرة أن المرأة لا مكان لها في قرارات العشيرة، وعليه سيخرج بتعميم خاص به أن المرأة لا دور لها في الحياة إلا إنجاب ورثة لما يملك هو وزوجته ماديا ومعنويا.
وما قلته آنفا لا يعني بالضرورة ان المضافات العشائرية ليس لها أدوار إيجابية في الحياة السياسية والإجتماعية في الأردن؛ فلها من الإيجابيات ما يتمثل في تعزيز قيم التكافل الإجتماعي والتعاون الإقتصادي بين أبناء العشيرة الواحدة، وتعزيز الروابط والأواصر بينها وبين عشائر أخرى في المناسبات الإجتماعية والدينية، وغيرها من قيم إيجابية أخرى، لكنني أرى سلبياتها هذه الايام أكثر من إيجابياتها وأخطر إلى حد يحدو بي إلى مطالبة الدولة بتشريع قوانين تمنع بناء المضافات العشائرية، وأن تضع يدها على المضافات العشائرية الحالية عن طريق شرائها وتحويلها على الاقل إلى رياض أطفال ومدارس ومعاهد علمية ما دمنا نعاني من اكتظاظ الصفوف المدرسية وشح المدارس والمعاهد. هذا في حال لم يتحول التعليم في المدارس والمعاهد إلى تعليم عن بعد.
في ضوء ما سبق، لعلني لا أغالي إذا ما قلت بأن الثقافة الأردنية تتجسد كثيرا أو قليلا في إسقاط البنية الأسرية والعشائرية الأردنية على المضافة كنموذجة من نماذج الفضاء الأردني.
وأخيرا ليس آخرا، لا أنكر أن لقوى الشد العكسي في الدولة دورا سلبيا أكبر من المضافة في تحجيم الحياة الحزبية في الأردن لا بل حتى محاربتها بشكل ما أو آخر، لكن هذا لا يمنع من تخصيص هذا المقال للتركيز قليلا على الدور الذي تقوم به المضافات العشائرية في انتاج برلمانات عشائرية، عانينا وما زلنا نعاني من قراراتها الكارثية على مدى نحو ثلاثة عقود. وضمور الحياة الحزبية في الأردن لا تنحصر أسبابه في الدور السلبي لكل من قوى الشد العكسي والمضافة وحسب، بل هناك أسباب أخرى تطرقت إليها في مقال لي نشره موقع (عمون) الإلكتروني قبل نحو عامين بعنوان: (الحياة الحزبية في الأردن بين الواقع والطموح). (9)
ملاحظات:
1) ما بين العلامتين [...] إضافة من الكاتب على النص المُقْتَبَس لغرض التوضيح و/أو التصويب.
2) العلامتان {...} خطان أحمران من الكاتب للتشديد على أهمية المفردة و/أو العبارة.
هوامش المقال:
(1) كتاب (حبر الشرق بين الحروب وصراع السلطة)، لمؤلفه دومينيك شفالييه، ترجمة د. جمال الشلبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2008، ص(258، 259)
(2) كتاب (حبر الشرق بين الحروب وصراع السلطة)، لمؤلفه دومينيك شفالييه، ترجمة د. جمال الشلبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2008، ص(259، 260)
(3) كتاب (حبر الشرق بين الحروب وصراع السلطة)، لمؤلفه دومينيك شفالييه، ترجمة د. جمال الشلبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2008، ص(260)
(4) كتاب (موسوعة المعارف الأردنية، محافظة عجلون)، الجزء الخامس، وزارة الثقافة الأردنية، الطبعة الأولى (2015)، ص(232)
(5) كتاب (الملك عبدالله كما عرفته)، تيسير ظبيان، الطبعة الثانية (1994)، ص(9)
(6) رواية (الوشاح الأحمر)، لمؤلفها علي الدلاهمة، منشورات وزارة الثقافة، الطبعة الأولى (1997)، ص(56)
(7) كتاب (شاهد على الفقر..أنثروبولوجي يتجول بين تفاصيل المجتمع الأردني)، أحمد أبو خليل، الآن ناشرون وموزعون، الطبعة الأولى (2020)، ص(113)
(8) رواية (وجه الزمان) لمؤلفها طاهر خلف العدوان، أمانة عمان الكبرى، الطبعة الثانية (2002)، ص(127)
(9) رابط المقال: https://www.ammonnews.net/index.php?page=article&id=477017