حدثان أردنيان أخذا البلاد مؤخرا و لا يخلوان من إرثٍ عتيقٍ مُؤْرِقٍ لكنه إرثٌ يطرق الباب الأردني بتواتر و يكشف عن وجهتي نظر فيهما حذرٌ وأملٌ. ليسا مرتبطين إلا بِقِدَمِ جذورهما وما يحملانه من دلائل ماضٍ و حاضرٍ و مستقبل.
الإرثُ المؤرقُ الأول هو امتحان الشهادةِ التوجيهيةِ والإرث الثاني سأتناوله بمقالةٍ لاحقةٍ إن شاء الله.
إرث التوجيهي الأردني يضع آلاف العائلات وعديد الوزارات المعنية وسائر وسائل الإعلام المحلية في أعلى درجات التوتر و التأهب والتناول الإعلامي المكثف و المثير كل عام. إمتحانٌ تدور رحاه في عددٍ من البلاد العربية كما الأردن و يُسْفِرُ عن رابحين و خاسرين بل و أحياناً عن مجرمين و ضحايا من أمثال من يُسَّرِبُ الأسئلة و من يلتقطها ليكتشف أنه ضحيةَ خديعة. و تتدخل فيه التقنية إما لابتكار وسائل الغش وإما لمقاومتها بالتشويش الإلكتروني والتفتيش الكوروني. إمتحانٌ يقرر النجاحُ فيه توجه آلاف الطلبة نحو المزيد من الدراسة في الجامعات و الكليات، أو إن تعذر هذا فالالتحاق بسوق العمل لكن دون مؤهلٍ علمي أو عمليٍّ يُعتَدُ به، أو ربما البطالة و البطالة ليست حِكْراً على فئة لكن دخول فئات الشباب الغض ميدانها ليس علامةً صحيحةً و لا مرغوبةً. إمتحانٌ يبني على تكديسِ عامٍ من التفهيم والتلقين والتدريس يسترجعها الطلبة إجابات صحيحةً وخاطئةً في ساعات تحدد مصيرهم. هو إرثٌ يَقُضُ المضاجع من عشرات السنين وهو مدعاةُ نقدٍ من الكثير مِثْلي الذين يفضلون نظاماً لا يقيس العلم بالسنة الأخيرة في سويعات من القلق العصبي بل يفضلون نظاماً يمتدُ في التقييم السلس خلال العام الدراسي لا ينتهي بامتحانٍ شامل بل بتقديرٍ شاملٍ لأعمالٍ وإختباراتٍ و تفاعلٍ بين الطلبة خلال عام من الجهود في مسار دفعهم للعلم المرتبط بالحياة العملية. وبحجم التأييد لهذا النسق المقترح تكراراً يأتي رفضه كلما أُقترِحَ و لأسباب عديدة ترتبط بالبناء التعليمي منذ الصفوف الأولى وتوجيهه لهذه النهاية المتوترة. وإن أردت تغيير هذه النهاية فعليك أن تغير البداية وهو شأنٌ كبيرٌ لا يبدو مُحبذاً لِعِظَمِ تفاصيله. قد تكون هناك كذلك أسبابٌ مجتمعيةٌ لتفضيل التوجيهي من قبيل أن التوجيهي بات الأساس للمقارنةِ بين الأجيال، التي يتعاقب عليها فهل من مرَّ منهم من أتونه يتساوى في القياس و من قد لا يمر إذا تم تطبيق نظامٍ جديدٍ فيعبر الأخير لمرحلة الجامعة ليس فقط بدون توتر التوجيهي ولكن بمقياسٍ تعليميٍّ مختلف، مجتمعياً. المعارضة لنظامٍ جديدٍ و صديقٍ قد تكون لها علاقة باعتقاد البعض بحتمية تطبيق المساواة المجتمعية! و قد يكون لتكلفةِ التغيير والخوفَ من إضطراب المنظومة التعليمية مِنْ وجاهةً في الرفض. إنَّ باحثون وخبراء ووزراءُ بحثوا في التغيير و كلهم طوى الدفاتر عليه. لماذا؟
لا تهدأ المواقع الإخبارية من إبراز الملحمة التوجيهية من خلال لقاءات مع المسؤولين والطلبة وأولياء الأمور والخبراء فتسألهم عن الاستعدادات والتجهيزات و نوعية التأمين لمقرات الاختبار و طبيعة الأسئلة. و يضيف هذا قلقاً فوق قلق و شكوكاً و ارتباكاً لتعدد الإجابات و الفرضيات ثم ينتهي الكرنڤال الإعلامي بإعلان النتائج. هذا الإعلان الذي يواكبه أيضاً كثيرُ الترقب و القلق و التسابق المحموم على من يصل للنتيجة أولاً و يُطلقُ العنان مع الفجر أو العصر ليعلم من لا يعلم أنه و أنها قد نجحا. ثنائيةٌ عجيبةٌ استهجان المسار التوجيهي الذي يهتم الكل به ثم الاحتفاء بالمتفوقين و ليظهرَ فوراً بعدها كَمٌ طويلٌ من الإعلانات لتمجيد مدارس وطلبة قفزوا فوق العقبة التوجيهية. ولا يخلو الموسم من إفزاع من لا علاقة له بهذا الكرنڤال. فابتهاجاً بالنجاح تُخْرَجُ الأسلحة النارية لتحتفل، بالرصاص الحي، وتُرمى الألعاب النارية في السماء بصوتٍ يُذَّكِرُ بِدَوِّي ِمعركة حقيقية، وكلاهما ممنوع قانوناً، لكن هيهات. ولا تكتمل الصورة إلا بالتظاهر بالشوارع بمواكب سيارة و حينها يتدلى الناجحون و أهليهم من نوافذ سياراتهم ليعبروا عن فرحتهم بالإنجاز العلمي و لكنه حقيقةً تعليرٌ عن بؤسهم التربوي! أنا لا أُقَّدِّرُ من يفرح في الشارع و يحصدُ مئات اللعنات من المتعطلين عن أعمالهم أو الخائفين من رصاصٍ منهمر أو المنزعجين من أصوات الانفجارات و المتكلفين أجهزة الدولة الأمنية و الصحية أعباءً فوق المعتاد.
في العام الفائت هالَت الإعلامَ والمراقبينَ نتائجُ لم تكن مسبوقة ضربت الرقم القياسي بعدد الحائزين على معدلات نجاح تفوق التسعين بالمائة. وعزا الرأي العام هذه النتائج لضعف التعليم عن بعد بسبب توقف الدراسة الوجاهية في المدارس بعد تفشي وباء الكورونا و لتساهل المنظومة التعليمية تجاه نوع الأسئلة. أما هذه السنة فالكل يشتكي من صعوبةٍ غير مسبوقة في الاختبارات وسننتظر النتائج قبل أن نحكم. لكن وجهة نظري هي أن الجهات المسؤولة قد تكون أدركت أنها بحاجة لغربلة النتائج السابقة و العودة لمنحنى جَرَسي فيه المتفوقين و الراسبين أقلية و الباقين في أغلبية منطقية من النجاح ولذلك أتت بالاختبارات ذات الأسئلة الفارزة بين الدارس الفذ الناجح وغيره. و سنرى.
أُصِّرُ في ختام هذا الموضوع على أن إرثِ التوجيهي ليسَ سُنةً واجبةً مطلوبٌ إبقاءها والإحتفاء بها و أن الأجدى من زاويةِ رؤيتي إتباع نظامٍ تعليميٍ لا يقود المجتمع و الدولة بأسلوب التوتر و التأهب كل صيف فنحن نريدُ أجيالاً لا ترتعبُ من اختبار و تُقْبِلُ على العلم و التعلم حُبَّاً لا خوفاً و إكراهاً.