في عام (1946)، كان التيفوس يأتي عمان من حيث لا تدري(1)، وكان الموت يعاجل الشيخ ماجد العدوان وهو يعد وليمة كبرى "كان يفترض أن يحضرها أهم شخصيات البلد، خاصة السياسية"(2).
ما يهمني في حادثة وفاة الشيخ أن الملك عبدالله الأول إبن حسين كان من أوائل الذين وصلوا على عجالة إلى مقر الشيخ حينما أتاه نبأ وفاته. وكان وصوله إيذانا بإرساء مرساة اليقين بموت الشيخ في نفوس الناس المغمورة بالظنون فيما إذا كان الأجل قد وافى الشيخ أم لا؛ فالناس اعتادت "أن يكون الملك آخر من يصل إلى المآدب والإحتفالات، أما وأنه جاء في هذا الوقت، وبهذه الطريقة [؟؟؟]، فقد تأكد الجميع أن ما حصل يفوق أي توقع: إنه الموت!"(3).
إذا نظرنا إلى الصلة بين الثقافة والمجتمع كما ينظر إليها ماثيو آرنولد في كتابه (الثقافة والفوضى) من حيث أن "المجتمع هو القاعدة المادية التي تحاول الثقافة أن توسع من هيمنتها عليها بواسطة رجال الثقافة العظام"(4)، وذهبنا مع آرنولد إلى أن "العلاقة القصوى بين الثقافة والمجتمع هي التطابق بينهما، بحيث تغطي مساحة الثقافة مساحة المجتمع"(4)؛ واتفقنا مع آرنولد بأن طموح الثقافة هو "هيمنة مجموعة غير محددة المعالم من الأفكار [وفي موضع آخر: "فرض قوة أو نظام من الأفكار"(4)] على كل ما عداها من أفكار في المجتمع"(4)؛ فإنه يمكننا القول أن السلطة "رجال الثقافة العظام" في الأردن ساهمت خلال ربع قرن من الزمان، منذ عام (1921) م حتى عام (1946) م، في تشكيل قالب متماسك نوعا ما لسلوك اجتماعي "فَرْض قوة أو نظام من الأفكار" دفع المجتمع فيما بعد ثمنا باهظا لبعض تداعياته وآثاره.(4)
أما السلوك الإجتماعي فهو أن المسؤول هو آخر من يصل إلى "المآدب والاحتفالات". هذا السلوك تقولب في قوالب عديدة متشابهة في الظاهر، مختلفة في الباطن، ومن الأمثلة على هذه القوالب: وصول معظم وجهاء القوم وأعيانهم إلى المناسبات الإجتماعية بعد وصول اغلب المدعوين. وقدوم معظم مدراء الدوائر الرسمية إلى أماكن عملهم بعد قدوم أغلب موظفي دوائرهم. وفي علم النفس، ينص القانون الثاني من قانوني الفيلسوف تارد للتقليد على "أن التقليد يتجه من الوطئ [خطأ مطبعي على الأرجح، والصواب: الواطئ] إلى العالي. فالصغير يقلد الكبير، والوضيع يقلد الرفيع، والطفل يقلد معلمه، و{الرعية تقلد حكامها}، والأحفاد يقلدون الأجداد. والأمم المغلوبة تقلد الأمم الغالبة، والأرياف تقلد المدن"(5)
وقد لا تظهر معظم الحلول لأغلب المشاكل إلا بعد أن تقع الفأس على الرأس؛ فالمسؤول قد لا يستبق المواطن لردم أية حفرة في الطرق التي تسير عليها الدولة كسلطة ومجتمع نحو المستقبل المجهول إلا بعد أن يقع فرد واحد على الأقل في تلك الحفرة، وقد يلاقي حتفه هناك في أغلب الأحيان بفعل هذا السقوط المريع. وفي هذا السياق، تجدني أقول: لربما في الغرب لا يضعون إشارة مرورية في مكانها إلا بعد دراسات مستفيضة، أما عندنا فربما لا نضعها في أي مكان إلا بعد حوادث مميتة.
لعلنا لا نغالي إذا ما شبهنا الكثير من المسؤولين هذه الأيام بالفيلسوف القابع في برجه العاجي على حد تعبير د.علي الوردي (6)، يحلق هناك بأفكاره بعيدا عن الواقع الذي يعيشه المواطن. ولربما لا نخطئ القول بأن أحد الأسباب الرابضة وراء تخلفنا النسبي عن ركب الأمم المتقدمة هو الفلسفة المكتبية التي يتبعها الكثير من المسؤولين.
ويمكن القول أن الفلسفة المكتبية هي الوجه المعاصر للفلسفة المثالية التي نادى بها أفلاطون وطبل وزمر لها أرسطو طاليس في سالف الأزمان والعصور.
وخير مثال على الفلسفة المكتبية وبعض نتائجها، السلبية منها، نجده في طيات إحدى ملاحظات الباحث أحمد أبي خليل؛ إذ يقول: "غير أن الملاحظ عموما أن قيام الباعة أنفسهم باختيار موقع السوق يكون في العادة خيارا موفقا، بينما لم يحالف النجاح أغلب المواقع التي كان اختيارها مكتبيا من قبل المسؤولين، بعيدا عن معرفة واقع المنطقة ذات العلاقة، وحركة السكان فيها". (7)
نحن لا ندعو المسؤول للدوام في الشارع دوما! نحن ندعو الدولة بشقيها: السلطة والمجتمع إلى إعادة النظر في طريقة معالجة مشاكلنا الإجتماعية والإقتصادية وقضايانا الفكرية وإشكالياتنا الثقافية وأزماتنا السياسية على حد سواء. نحن نقترح على الدولة أن تضع سلسلة لتوريد المعلومات والبيانات من الشارع إلى المكتب، من الواقع حيث المجتمع إلى البرج العاجي حيث السلطة، من المواطن هدف القرار إلى المسؤول صانع القرار.
سلسلة توريد المعلومات والبيانات هذه يفترض بها أن تؤطر بضوابط تحفظها من التزوير وأن تحصن بقواعد تحميها من التلاعب والتحريف، على أن تخضع تلكم المعلومات والبيانات لعملية تجديد بين الفينة والأخرى، كي يظل المسؤول في اقرب مكان له من الوقائع.
فلو أن المسؤولين عن اختيار مواقع الأسواق الشعبية اتخذوا قراراتهم استنادا إلى معلومات وبيانات استقوها من الباعة الأقرب للوقائع ولجزئياتها وحيثياتها، لربما أتت قراراتهم حينئذ بثمر طيب يستلذ منه المواطن والمسؤول معا.
ومع ذلك، يفترض بنا ألا نستبعد أحد الاحتمالات الذي قد يدفع بالمسؤول الى اتخاذ قرار دون الإصغاء لصيحات الواقع وصرخاته التي تكاد تصم الآذان، هذا الإحتمال هو: المصلحة الشخصية للمسؤول نفسه. أي لربما اختار أحد المسؤولين موقعا ما لأحد الأسواق الشعبية لقربه من عقارات يملكها؛ فترتفع أسعارها مع قيام السوق الشعبي بالقرب منها، ويحقق المسؤول الربح السريع على حساب رزق البائع البطيء، وهنا يصل بنا الأمر إلى مأساة الدولة الأردنية أن الفرد فيها يعزل سلوكه كمواطن عن المسؤولية، ويفصل سلوكه كمسؤول عن المواطنة.
والمفارقة أننا ندعو إلى دراسة الواقع، والواقع يقول أن الإنسان -عموما ليس مطلقا- لا يرى من "الحقيقة" إن وجدت إلا ما يحقق مصالحه الشخصية؛ فكيف بنا نواجه هذا الواقع الأليم؟!
لربما لا أجافي المنطق إذا ما قلت أنه بقوة القانون نواجه جبروت هذا الواقع وعنفوانه.
ملاحظة:
ما بين العلامتين [...] إضافة من الكاتب على النص المُقْتَبَس لغرض التوضيح و/أو التصويب.
هوامش المقال:
(1) كتاب (سيرة مدينة: عمان في الأربعينات)، لمؤلفه عبدالرحمن منيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، (2006)، ص(174).
(2) كتاب (سيرة مدينة: عمان في الأربعينات)، لمؤلفه عبدالرحمن منيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، (2006)، ص(89).
(3) المصدر السابق، ص(89)
(4) كتاب (العالم والنص والناقد)، لمؤلفه ادوارد سعيد، ترجمة محمد عصفور، مراجعة وتقديم: محمد شاهين، دار الآداب، الطبعة الأولى (2017)، ص(43).
(5) كتاب (علم النفس)، لمؤلفه جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، طبعة ثانية (1984)، ص(104)
(6) كتاب (منطق ابن خلدون)، لمؤلفه د. علي الوردي، دار الوراق للنشر، الطبعة الرابعة (2016)، ص(31)
(7) كتاب (شاهد على الفقر: أنثروبولوجي يتجول بين تفاصيل المجتمع الأردني)، لمؤلفه أحمد أبو خليل، الآن ناشرون وموزعون، الطبعة الأولى (2020)، ص (57).
(8) نشرت جريدة (العرب اليوم) الأردنية هذه الشذرة في عددها الصادر بتاريخ (27/10/2001). أنظر الرابط التالي: https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=519904028695356&id=354647958554298
(9) كتاب (العرب: وجهة نظر يابانية)، لمؤلفه نوبوأكي نوتوهارا، منشورات الجمل، الطبعة الأولى (2003)، ص(13).