كان عليُ كوكب الصبا الذي يمسح سرمد الليل بضياء طيبه ويحمل سر الخير، هو الأخ الذي لم تلده أمي، وأمه هي أمي، قامة عروبية أتت ذات يوم من بنت جبيل، حاضرة آساد عامل، الجبل والثورة معاً. التقيت علياً أول مرة منذ خمسين عاماً حين كنا صغاراً، في ملاعب الكرة والطيش، أسجل في مرماه الذي يحرسه هدفاً فيفوز مع فريقه في بطولة القدم. أينعت تلك الصداقة وأزهرت في الرمثا حيث كنا نلهو ونسوح في مروجها الدافئة التي احتضنت كل من التجأ بها وإليها، تشعل مراجل الإملاق للجوعى وتعزف رجع الغنى لكل نازح، أو لاجئ بحبها أرتضى.
دامت صداقتي مع علي عمراً، منذ سهر بيته في شارع السوق لياليه يتدارس الكتاب معنا، من تفاضل وتكامل إلى فيزياء وأحياء وكيمياء، ثم تاريخ الأدب العربي وعبقرية أبو بكر الصديق، للعقاد حين كانت مقرراً، وما تزال كذلك في قلب علي وفي قلبي. كانت أم عقيل، أم علي، أستاذ الأساتذة ومصباح القلوب؛ إذ تفتح الظلماء وتنير دروب العتمة لنا، تسهر معنا لتطعمنا الزاد من دقات قلبها وتسقينا ماء الوعد من قطرات النعاس في عينيها. كما كان علي معتد بوالده رمز الرجولة والفخر، أبي عقيل حين يسمو ذكره خلقاً ومهابةً ووقاراً، أحد فرسان الجيش العربي وقادته حينئذ. عشت في حديقة الأيام تلك صديقاً لعلي، ومعه آل بيضون وسعد وديباجة وفردوس، وكل متاولة الرمثا، في تلك البلدة الوادعة، وبشذى الود ممراحة، ظلال الطيب والتسامح كانت فيها وارفة، وأغصان المحبة والتآلف مزهرة وندية.
توالت العقود تترى ومضت، ودعت بعضها وقضت، لكنها تركت خلفها سحب الشؤم السوداء في السماء التي تحرس أرض الأنبياء، أغبرت بها آفاق الوعي وحطمت الحقيقة، حجبت ضياء الإيمان ونور الله عن البصر والبصيرة. واأسفاه؛ إذ ما زالت سحب الفتنة إلى اليوم تجوب كل المساحة بين المأساة والملحمة، من انطاكيا إلى عدن، تخوض في نهر الرماد من المحيط إلى الخليج، تبحث عن الهيمنة وتسعى إلى السيطرة والنفوذ، حيث منابع الفرقة يانعة ومنابت الأفتراق ناضجة نضرة. لكن قصة الخمسين عاماً من صداقتي لعلي تقف اليوم بهية مشرقة، رغم أنها لن تروق لسدنة الفتنة وكهنة الكهف، لن تعجب صهيون وكوهين لأنها تدحض اطروحة برنارد لويس في الشرق الأوسط الجديد وتنقضها، لذا سأبقى أسردها مراراً لأبنائي وفي كل حين، أوصيهم بأن أم عقيل ما زالت أمي، شيعية كانت أم سنية، وعلي عندي كان دوماً، وما زال، كوكب الصبا الدري.