رسالة مفتوحة إلى قادة فتح وكوادرها
عريب الرنتاوي
04-07-2021 09:04 AM
يطيب للإخوة فتح ترديد عبارة، تُطربنا نحن أيضاً: أول الرصاص وأول الحجارة...ليس من قارئ منصف لتاريخ الوطنية الفلسطينية، إلا و"يبصم بالعشرة" على هذه الحقيقة...بيد أن استذكار هذه الحقيقة، لا يكفي وحده لاستنقاذ الحالة التي آلت إليها الحركة التي طالما مثلت "العمود الفقري" لمنظمة التحرير والحركة الوطنية الفلسطينية...اليوم، ثمة حقائق جديدة، يخطئ من يقفز من فوقها: النظام الفلسطيني "أحادي القطبية" انهار منذ زمن، ونظام "الثنائية القطبية" انتهى إلى الانقسام الأطول والأعمق والأخطر في التاريخ الفلسطيني، ولا بد من نظام فلسطيني جديد.
يعني ذلك، من ضمن ما يعني، أن بقاء فتح وتجددها وتطورها، ليس ضرورة فصائلية تخص أبناء الحركة ومنتسبيها وجمهورها العريض فحسب، بل هو حاجة وطنية فلسطينية، ومصلحة لكل الفلسطينيين حتى بالمعنى "البراغماتي" للكلمة...فلا أحد يرغب، ولا مصلحة لأحد، لا في استبدال عمود فقري بعمود آخر، ولا في تفشي نظام "الثنائية القطبية"، ولا بد من "تعددية قطبية فلسطينية"...صحيح أن البحث عن "قطب ثالث" ليست مسؤوليتكم ، ومن باب أولى ليست من صلاحية حماس، بل هي مسؤولية كل من هم خارج الفصيلين الكبيرين، أما مسؤوليتكم الأولى فتتجلى في الحفاظ على فتح، كقطب كبير في الساحة الوطنية الفلسطينية، ولا أحد غيركم بمقدوره فعل ذلك.
ولكم لدى عدوكم أهم الدروس والخبرات: حزب العمل (المعراخ، ماباي سابقاً)، لعب دوراً تأسيساً في الحركة الصهيونية العالمية وفي تأسيس إسرائيل، اليوم يحتل الحزب مكانة هامشية على يسار الخريطة الحزبية الإسرائيلية، هم نجحوا في ترجمة "مشروعهم" وفي إنشاء "الوطن القومي لليهود في فلسطين"، بيد أن نجاحاتهم تلك، لم تشفع لهم عند الإسرائيليين، فانزووا فوق بضعة مقاعد في الكنيست...في المقابل، أنتم (ونحن) لم تنجحوا في ترجمة مشروعكم، المشروع الوطني الفلسطيني، بل أن هذا المشروع بات في مهب الريح، ومع ذلك، تعتقدون أن الشعب سيظل يمنحكم شيكاً على بياض...هذا لن يحدث، وإن حدث، فلن يستمر، ولديكم اليوم على الساحة الوطنية، ومن داخلكم، خصوماً ومنافسين...استحضار صفحات المجد والبطولة والشهادة من التاريخ، ضروري لغايات حفز الهمم، واستنهاض العزيمة، على طريق التجدد والتجديد والتشبيب، على طريق بعث فتح والحركة والمنظمة من جديد، وبخلاف ذلك، نصبح كمن يجتر ماضياً تليداً، وهي واحدة من خصالنا العربية البائسة على أية حال، وهي ليست حكراً عليكم دون غيركم.
أولى خطوات البحث في تجديد فتح وبعثها، تكون بالإقرار بالواقع المر الذي انتهت إليه الحركة والمنظمة والسلطة و"المشروع"...بخلاف ذلك، لن يكون هناك أي تقدم...يليها الإقرار بقسطكم الرئيس من المسؤولية عن المصائر الصعبة التي انتهينا إليها، للبحث عن مواطن الخلل ومعالجتها، فليس من الحكمة، المضي في تعليق الفشل على مشاجب الآخرين، مع أن الآخرين يتحملون أقساطهم من المسؤولية كذلك، وطالما أن أنك حظيت بشرف الريادة والقيادة، فإن عليك القسط الأوفر من المسؤولية كذلك، عن الفشل والخيبة...ليس بيدكم تصويب مسارات الآخرين، ولا قلب المشهد الإقليمي والدولي رأساً على عقب، لكن بيدكم تصويب مساراتكم، وتجفيف منابع الخلل والاختلال...تلكم مسؤوليتكم، وبيدكم وحدكم القدرة على معالجتها، ومن الحكمة أن نبدأ من هنا.
إن "فك ارتباك" فتح بالسلطة، إنما يُعد متطلباً ضرورياً لاستنقاذ الحركة، فالسلطة مفسدة للنضال والمناضلين والثوار، سيما حين يمتد هذا الارتباط لسنوات وعقود، وبالأخص بعد أن يتأكد لشعبكم، وهو أمر بدأ على أية حال، بأن سلطته تتحول إلى عبء عليه، لا ذخراً له...وإن مشروع انتقالها إلى "الدولة العتيدة"، دونه خرط القتاد، حتى لا أقول بات وراء ظهورنا...البقاء في السلطة طوال هذا الوقت، له منافع وثمار، لكنه يُرتب أثمان وأكلاف، بدأتم منذ زمن بدفعها، على المستوى الجمعي على الأقل، حتى وإن تمتع بعضكم أو كثيرٌ منكم، بثمار السلطة ومزاياها...يبدو أن " فك الارتباط" الحركة بالسلطة، بات شراً لا بد منه، إن أنتم أردتم استنقاذ فتح، وقبل فوات الأوان.
لكنني ومن موقع الصديق وصاحب المصلحة المعنوية والثقافية، أرقب حالة من النزق والعصبية في التعامل مع الانتقادات التي تتعرضون لها، حتى أنكم ما عدتم تميزون بين نقد واستهداف، نقد يرى في بقاء فتح وديمومتها، مصلحة وطنية عامة، شريطة أن تتخفف من كل ما علق بها من شوائب أوسلو نهجاً وتفكيراً وسلطة، واستهداف يندرج في إطار حرب خصومكم عليكم في سبيل السلطة، أو يهدف إلى الحلول محلكم، وتلكم مسألة أخرى، فلا تقعوا في الخلط والالتباس، وبدل تبديد الوقت والجهد في خوض معارك جانبية، عليكم التوجه نحو الهدف الأسمى، مبرر وجودكم: استنقاذ فتح بما هي حركة تحرر وطني، لاستكمال المشوار الذي يتأكد لنا يوماً إثر آخر، بأنه ما زال مديداً ومريراً.
إن مشاكل فتح الداخلية، تعاجل بتصعيد حالة الاشتباك ضد الاحتلال والاستيطان، وجعلها برنامج عمل يومي...في ميادين المواجهة، تتفولذ فتح، ويُفرز غثها عن سمينها، وعن هذا الطريق، يُعاد بناء الحركة من أسفل إلى أعلى، وبهذا الأسلوب فقط، يمكن استعادة الثقة والشعبية والتوازن..بخلاف ذلك، ستظل الحركة التي عُرفت بدورها المبادر تاريخياً، وقامت على "المبادرة والمبادءة" أصلاً، في موقع الدفاع والتبرير، وستزداد نزقاً وميلاً للعنف المفرط ضد أهلها وشعبها ومجادليها، وقد تتحول إلى "ميليشيا سلطوية" لا سمح الله، وستفقد الخصائص الكبرى التي ميزتها عن غيرها، كحاضنة تضم الجميع، بمن فيهم من هم خارجها.
وإن مشاكل فتح الداخلية، لا تُحل بتعطيل مسارات الديمقراطية والانتخابات والحريات في فلسطين...وثمة حلول بمقدورها أن تقطع الطريق على السيناريوهات الأسوأ لأية انتخابات كما ارتسمت في مخيلتهم قبل عدة أسابيع...لديكم كوادر وقيادات، شابة، طليقة وأسيرة، بمقدورها أن تتسلم الراية، وأن تقود المرحلة المقبلة، فلا تظلوا أسرى لمن أخفقوا طوال ربع قرن أو يزيد...لا أريد أن أقول أن فتح تحتاج "ثورة في الثورة"، لكن يبدو أنني لا أجد تعبيراً أفضل من هذا، لاقتراحه عليكم.
لديكم "حصان رهان" ما زال قادراً ومؤهلاً لكسب "سباق المسافات الطويلة"، فاعملوا على تحريره من أسره، وخوضوا أوسع المعارك من أجل حريته، ولديكم على هذا الطريق من بمقدوره مد يد العون لكم...ترشيح مروان البرغوثي للرئاسة، وربما مع نائب للرئيس (بتذكرة انتخابية واحدة)، ربما يكون رهانكم الأقوى...توحيد فتح، في قوائم انتخابية للتشريعي، ليست مهمة مستحيلة، وحتى بفرض خوض الانتخابات بقائمتين، فلا بد من التنسيق والتناغم، وربما يكون هذا الخيار، أجدى لكم، كما اقترحنا قبل الانتخابات المغدورة بزمن، لكن أن تظهروا أمام شعبكم بوصفكم من عطّل الانتخابات لخشيته من خسارتها، فتلكم صورة لا تليق بتضحياتكم الجسيمة الممتدة لستة عقود خلت.
واذهبوا إلى تفعيل منظمة التحرير وبعثها، فتلك ملاذكم الأخير، وليست السلطة...ولا تنتظروا أن تأتي المبادرة من حماس...ولطالما دعونا لتفعيل المنظمة، بحماس أو من دونها، ليس استخفافاً بحماس ولا رغبة في استبعادها، ولكن من منطلق القناعة بجوب إحياء المنظمة وتنشيطها، فإن جنحت حماس لخيار الاندماج، جاءت على كيان نشط وحيوي، وليس كياناً ميتاً يرقد في غرفة الإنعاش، وإن تمنعت واعتذرت، نكون قد ربحنا المنظمة التي أكلتها السلطة وتكاد تجهز عليها.
ولكم في معارك "بيتا" وسلوان والشيخ جراح، دروساً ونماذج لما يمكن أن يكون عليه حالكم وحال شعبكم، حين تتوفر الإرادة والقناعة، بتحويل كل الضفة الغربية والقدس (والخط الأخضر)، إلى بيتا ونعلين والشيخ جراح وباب العامود...على خطوط التماس مع الاحتلال والاستيطان والعنصرية، يُعاد استنهاض فتح واستنقاذ منظمة التحرير.
ومثلما كان "شيوخ" فتح، أول الرصاص والحجار، فإن شبابها وفتيانها، هم راهن الحركة ومستقبلها، فلا تبقوا الحركة أسيرة ذكريات ماضيها التليد، بل انظروا إلى ما يمكن فعله اليوم وغداً، لجعلها حجر الزاوية كذلك، في معارك الحاضر والمستقبل، فالتاريخ فعل حركة وتطور...أما من يقبل بالجمود فجدير بالانقراض.