تهيئة الفكر لصعود الحرية .. (1)
جياد آدم
20-06-2007 03:00 AM
مع ذهاب وانتفاء المعرفة اليقينية المطلقة أعادت الفلسفة ومعها العلوم ترتيب أوراقها من جديد على أساس أن ما نعرفه عن العالم ليس بالضرورة يمثل حقيقة ووجها وجوديا لهذا العالم .. بقدر ما يمثل فكرتنا وتصوراتنا عنه .. والتي لا يوجد ما يلزم العقل أنها يقينية وثابة ثباتا مطلقا ونهائيا .ولعل دارسي الرياضيات والفيزياء ألموا بتلك التحولات الهائلة التي عصفت بما كان يظن أنها أنساق صارمة ونهائية .فبعد أن ظن العلماء أن ثمة بقايا بسيطة وأجزاء إذا تم تفسيرها فإن العلم سيمتلك انساقا ونظريات علمية متكاملة مفسرة لكل شيء في الكون إذا بهم فجأة أمام دهليز ينفتح على أسئلة لم تخطر لهم على بال تعيد خلط وترتيب الأوراق من جديد ليتداعي كلية تقريبا ما كان يظن انه كامل ونهائي وأبدي.
ففي الفيزياء تداعت الفيزياء النيوتونية بالكامل تقريبا لتحل محلها النسبية ومن ثم أتى من يعقب عل النسبية ذاتها بعدها.. وهكذا إلى أن وصل العلماء إلى أن النظرية الكاملة هي وحدها نظرية اللايقين أو نسبية المعرفة وهي غير نسبية اينشتاين.
وفي الرياضيات لم تعد الإقليدية التي تعتمد على الحدس المكاني وتنطلق من مصادرة أن المكان مستو أو مسطح هي النسق الرياضي الوحيد لأننا ببساطة اكتشفنا أنه لا يوجد ما يلزمنا أن المكان مسطح ..وبناء على تغيير هذه المصادرة الأساسية تتغير الكثير من القضايا والمقولات المبنية عليها تلقائيا ..فإذا انطلقنا من مصادرة كون العالم مكورا مثلا أو مقعرا تنتج عن ذلك قضايا جديدة تختلف باختلاف التصور الذي صدرنا عنه .. فمثلا اذا انطلقنا من كون المكان مقعرا..فمن القضايا الناشئة أن جموع أو زوايا المثلث أقل من 180ْ (بولياي ولوباتشيفسكي) .. وإذا كان محدبا فهي أكثر من 180 ْ حسب نسق (ريمان)وعليه قس .
ونشا عن ذلك نتائج مهمة حيث بات ينظر للنسق العلمي بانه ينتمي إلى مصادر وتصورات فكرية أكثر مما هو إلى حقائق وجودية ثابتة .. ونشأ عن ذلك أن انفكت وانفصلت الرياضيات عن المكان ونشأت رياضيات تجريدية رمزية لا تعتمد الحدس المكاني في مقولاتها ومصادراتها الأساسية .
وكان من نتائج ذلك وانعكاساته في الايدولوجيا بدوره هو انتفاء ادعاء الحقيقة أو الصواب المطلق أو امتلاكه ..فمثلا بينما كانت الحداثة أشبه بأيديولوجيا أو نسق له اشتراطاته المسبقة صارت عبارة على خيارات مفتوحة خاضعة لعمليات( الموديفيكيشن) أو (الأب ديتنق) المستمرة بحيث قد يخرج منها خيار ابتكر أمس فقط ويدخل إليها خيار ابتكر قبل ألف عام .. وهو ما يصفه البعض بأنه حالة من السيولة في المعرفة والفكر.
ذلك أنه إذا كان العلم ذاته الخاضع للتجربة الأمبريقية يكتشف في نهاية المطاف نتائجه نسبية الصواب وأنه لا يوجد ما يثبت أن ما نعرفه عن هذا العالم هو صورة يقينية مطابقة لهذا العالم بقدر ما هو صورة ما نتخيله أونتصوره عنه في النهاية فما بالك بالافكار والايديولوجيات الاجتماعية والسياسية ...الخ.
وحلت تبعا لذلك السيولة في الفكر والمعتقد والأيديولوجيا مكان الصلابة والحتمية والثبات.. حتى المعتقدات الدينية التي كانت لا تقبل النقاش وفي منتهى الصلابة تأثرت وانفتحت فبتنا نرى سيلا من الفتاوى في المسألة الواحدة وتراجعا عن مواقف كان ينظر لها على أنها نهائية وباتة .. وأعطى هذا مزيدا من الحرية والانطلاق للفكر فلم يعد من سدنة وقيمين على العقل ولم يعد تبعا لذلك ثمة من يخجل من أفكاره خوفا من أن يتهم بالرجعية أو التخلف يوم كانت التقدمية والحداثوية (باكج) كامل وعقيدة إما أن تعتنقها أو فالتهمة بالتخلف والرجعية جاهزة....اليوم بإمكانك أن تختار بنودا ونقاطا من أكثر الأفكار حداثوية ومن أكثرها قدما ليكون لك إيديولوجيتك الخاصة الفردانية .
انه وبرغم الانعكاسات السلبية لعهد ما بعد الحداثة وما بعده وللسيولة التي يمر بها الأشياء ومن ضمنها الفكر إلا أن لهذا جانبه الإيجابي على الحرية الفردية والجماعية أيضا ..وفي تخفيف قبضة الأنساق والإيديولوجيات الشمولية المتكاملة التي كان عليك إما أن تعتنقها كتابع ومبشر وتكون بداخلها تماما بحيث لا ترى إلا الجدران الداخلية للهيكل .. أو فأنت بعرفها نقيض وخارجي ومعاد ورجعي...الخ التصنيفات.
إن هذا يهيئ شروطا طيبة ومواتية لانفتاح العقل وانطلاقه من عقال الأيديولوجيات الشمولية ليفكر في جو صحي ويتنفس هواءً نقيا من غبار الأفكار المفروضة إن بقوة السلطة أو بقوة العقل وسطوة الأيديولوجيا ذاتها.
jeaad@yahoo.com
http://blacksteed.jeeran.com/reform/